سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
القنديل الثاني: الأديب والناقد التونسي أبو زيان السعدي ل «لشروق»: بين الأكاديميين والمثقفين، هناك حذر من نوع خاص، راجع إلى فهم كل من الطائفتين للكتابة الأدبية
لا يمكنني التأكيد منذ متى أعرف «أبو زيان السعدي»، ولا إذا كنت أعرفه حقاً . فهو كمعالم المدينة، دائم الوجود، لكنه متحول غير قار،توطدت العلاقة منذ سنوات، بسلام صباحي في قهوتنا المعتادة، صباح الخير بوزيان، صباح الخير رشا. ثم جلست معه، فوجدته لطيفاً، طريفاً، ثرياً، صاحب نكتة، غالباً ساخرة . متداخل ومتناقض، كل صباح يأتي بخطى متثاقلة وكأنه لا يرى أحداً، ترافقه سيجارته الأزلية التي لا تفارق شفتيه إلا لتترك المجال لشقيقتها، (ترى هل تنام معه؟)، في الشتاء يلبس معطفه الغامق وقبعته الروسية الثلاثية. وفي الصيف قميصه الأبيض. لو سألت أحدهم من الجيل الجديد : هل تعرف بوزيان؟ سيجيبك: بالطبع أعرف بوزيان، تسأله: كيف تعرفه؟ سيتراجع ولا يعرف ما يجيب، الكل يعرف ابوزيان السعدي ولا أحد يعرفه. منذ أكثر من عشر سنوات، خلال إحدى زياراتي لدمشق، سألني أحد أقاربي ضابط كبير في الجيش، وكان سابقاً مسؤولاً كبيراً في الحكومة، هو اليوم متقاعد ومدير نادي الضباط للرماية، هل تعرفين أبو زيان السعدي؟ ذهلت كيف يمكن لقريبي الذي لم يزر أبدا تونس أن يعرف أبو زيان؟ وإلى اليوم لا أعرف كيف كان ذلك. أشرف على صفحات الملحق الثقافي لجريدة العمل، وتتلمذ على صفحاته العديد من الزملاء في الساحة الصحافية، وكتب في العديد من الصحف التونسية والعربية، في كتبه المهمة تعرض لشخصيات ومواضيع، مؤكداً على محاولة البحث في حقل التاريخ والأدب، وزيادة توضيح مسائل وقضايا تقتضي الإثراء والتجديد على مر السنوات، وتعاقب الأجيال، وتتطلب المراجعة والتجاوز، لا سيما وأن تراكم المعارف والأبحاث في جل المواضيع والمجالات، لا بد أن يبقى متواصلاً التقيناه في جلسته الصباحية المعتادة . أنت تنحدر من أصول قيروانية، لكن الوثائق تقول أنك مولود في العاصمة؟ أصولي تنتمي فعلاً إلى ولاية القيروان، وبالتحديد إلى معتمدية حاجب العيون، حيث ولدت لكنني لم أسجل بدفاتر أحوالها المدنية، لأن والدي الحاج صالح بن أحمد السعدي، هاجر إلى العاصمة بعد ذلك بسنوات ثلاث تقريباً، ليمتهن التجارة، ويغير مجرى حياة عائلته بالكامل، ومن ثم بادر بتسجيلي في بلدية العاصمة، وهذا كل ما في الأمر. كيف تستعيد مراحل طفولتك وشبابك؟ بدايتها كانت في ريف حاجب العيون، ومما أذكر من صورها البعيدة، أن الحياة كانت قاسية، وأن الناس كانوا في صراع على هذه القطعة أو تلك من الأرض، كانوا يتدبرون شؤون حياتهم اليومية بالزراعة، وما يشبه التجارة بالأغنام والحبوب وما شابه ذلك، حتى إذا أقبل الصيف وحان وقت الحصاد، تهيأ الكثيرون للرحلة في قوافل إلى الشمال مما كان يسمى إفريقيا، ليظلوا هناك طوال أشهر الصيف، ثم يعودون بعدها وافرين غانمين، ليكون في إستقبالهم الأهل والأحباب والأطفال خاصة، بما يليق من الترحاب، ثم لا تكاد تمضي فترة قصيرة حتى تنطلق مواسم الأعراس، فتصدح الحناجر بالغناء البدوي الشجي، وتقرع الطبول على إيقاع المزامير العذبة، وتبتهج النفوس لألعاب الخيل، وما كان يأتيه الفرسان من حركات بهلوانية تأخذ الألباب . لكن طفولتي الحقيقية كانت بالعاصمة، حيث إكتسبت فيها معارفي الأولى، وتعرفت بشغف على الحياة الجديدة، التي كانت تنتظم في مناسبات محددة، تصور العلاقة بين العائلة والأخرى، كما تصور الروابط في السراء والضراء، بين حي وآخر من أحياء العاصمة، تبلغ حد الإلزام، أضيفي إلى ذلك أن والدي بادر بإلحاقي بأحد الكتاتيب القرآنية، الكائن بنهج السبالة من حي القعادين، بقيت فيه سنوات أحفظ الكتاب الكريم ومباديء العربية، وشيئاً من الأناشيد الدينية، أرددها مع زملائي أيام المولد النبوي، ومناسبات الختان، ننتظم صفين تصدح أمامنا موسيقى نحاسية ذات صوت عال، حتى إذا أكملت نصف القرآن الكريم، بادر والدي بترسيمي في السنة الأولى من التعليم الزيتوني . كيف كانت مرحلة الزيتونة؟ كان ذلك في أكتوبر 1947، حيث درست أولاً بالفرع الطابعي نسبة إلى جامع صاحب الطابع لأنتقل بعده إلى الجامع الحفصي، فاليوسفي، فالمرادي، ولأختم ذلك بشهادة الأهلية، أما السنوات الثلاث المتبقية لإحراز شهادة التحصيل، فقد أكملتها أولاً بمعهد إبن عبد الله، ثم بجامع الزيتونة بعد ذلك، وهكذا تحصلت على شهادة التحصيل العلمي سنة 1955. تميزت تلك السنوات بالنضال على عدة ساحات؟ نعم، كانت سنوات حافلة بالنضال الوطني وكان على أشده، وحافلة بالنضال الطالبي الزيتوني، من أجل المطالبة بإصلاح التعليم الزيتوني، وفق مطالب محددة كنا ننادي بها جميعاً، وفي مقدمتها إدخال اللغات الأجنبية، ومعادلة الشهائد الزيتونية بغيرها من الشهائد المدرسية. وإحداث فضاءات مناسبة للدراسة، وفتح المجال أمام الزيتونيين بالجامعات الشرقية، وغير ذلك من المطالب. فيما يخصني فقد إلتحقت فور إتمام دراستي الزيتونية بمدرسة الحقوق التونسية، لأظل بها سنة واحدة، دون أن أكمل السنتين الباقيتين، لإقتناعي أنني لن أجد فيها ما يصور مثلي الأعلى في التكوين الفكري والأدبي، لذلك إلتحقت بجامعة القاهرة للدراسة بكلية الآداب، لأتخرج منها حاملاً شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها، عدت بعدها إلى تونس لأمارس التعليم في مدينة بنزرت، وإنطلقت منذ ذلك الحين في مسيرتي الأدبية والنقدية، أشقها بما إستطعت من جهد، وبما أجد فيها من لذة وإمتاع، وفي كل الأحوال مطمئن إلى إختياراتي الأدبية والنقدية والفكرية، إطمئنان الإيمان يتغلغل إلى شغاف القلب، وإطمئنان الفكرة الواضحة إلى موضعها في وجدان العقل والروح . كيف إكتشفت عالم الأدب السحري؟ إكتشفت ذلك وأنا على مقعد الدراسة بجامع الزيتونة المعمور، عبر دروس الأدب واللغة، نتلقاها على أساتذتنا الأجلاء، أمثال الصادق بسيس، ومحمد الحبيب الخوجة،والعروسي المطوي،وأحمد المختار الوزير،والهادي حمو، وكمال جعيط . ومحمد المختار السلامي . وفي مقدمتهم جميعاً الشيخ الأستاذ الفاضل بن عاشور . كما كان ذلك عبر إتصالي المستمر بالشاعر الكبير مصطفى خريف، كان مجلسه بمقاهي العاصمة، مقهى الديوان، ومقهى القشاشين، ومقهى المغرب، حافلاً بشداة الأدب والشعر، من أمثال منور صمادح، وجمال الدين حمدي، ونور الدين صمود، والعفيف الأخضر. وغيرهم... فضلاً عن تلك القراءات المتنوعة لأعلام الأدب الحديث، مثل العقاد وطه حسين وأحمد أمين وتوفيق الحكيم، وما كنا نجده في مجلات الرسالة والثقافة القاهريتين، والأديب والآداب البيروتيتين، من نماذج قصصية وشعرية ومقالات نقدية وأدبية متميزة كل التميز، ورائعة كل الروعة، لإحتفال أصحاب هذه المجلات، وهم أدباء كبار كما هو معلوم بالمستوى الرفيع الذي يمكن أن يعكس تصوراتهم في فهم الأدب الحق وتجديده، ومن ثم فلا مجال أمامهم إلا نشر النصوص الأصيلة الجيدة، و الرهان على الجديد الذي يضيف ويخدم الأدب واللغة، ويفتح الطريق لغد أدبي وضاء. كثيراً ما أسأل عن موضوع أدبي، أو كتاب، أو شخصية أدبية تونسية أو عربية، فيقولون لي إسألي أبو زيان، فما السبب في رأيك؟ العفو سيدتي الفاضلة، فما أنا غير قارئ لما يقع أمامي من كتب، تتصل بإهتماماتي الأدبية والنقدية والتاريخية، ولا أخفي سراً حين أقول إنني أجد راحتي التامة مع أي كتاب يوفر لي الفائدة والإمتاع . وبحمد الله فإن ذلك كثير في تراثنا الأدبي والعلمي والفكري، كما أن تراثنا الحديث لا يخلو هو أيضاً من أمثال ذلك . هذه المرجعية، هل هي حصيلة لقراءاتك ؟ أم منهج إتبعته في حياتك الأدبية ؟ كما ذكرت لك، فإني قارئ مخلص للكتاب، منجذب إليه بالجبلة والطبع، لذلك حرصت منذ أيام دراستي الثانوية والجامعية، على إقتناء الكتب الأساسية المرجعية بالدرجة الأولى لحاجتي إليها في الموضوعات التي أريد الكتابة عنها، كما كنت أقتني بإستمرار غيرها من الكتب التي أرى فيها عوناً على ما أنا بسبيله، وهكذا يمكن القول بأن القراءة المتصلة توفر الزاد المعرفي الضروري، كما أن المنهج في تصنيف القراءة حول موضوعات محددة، هو مهم كذلك في إعانة الذاكرة على الإستيعاب والتذكر، الأمر الذي أعانني على أن أكون عند حسن ظنك، وظن العديدين من زملائي الكتاب والقراء كذلك . هل سافرت كثيراً؟ نعم، سافرت إلى عديد البلدان العربية، لبنان وسوريا وليبيا عدة مرات، للمشاركة في نشاطات أدبية . أما مصر فقد زاولت فيها تعليمي الجامعي مدة أربع سنوات . كما قضيت بالمملكة السعودية ثلاث سنوات، أستاذاً بمعاهدها الثانوية، وخلالها كتبت بنظام في جريدة الشرق الأوسط، وجريدة المدينة، ولي فيها صداقات من أمثال المرحومين حسين زيدان وعبد الله جفري وغيرهم ... وزرت بغداد مرتين، الأولى سنة 1965 والثانية سنة 1979، وربطت صداقات كثيرة بأدبائها أمثال الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، والروائي العزيز عبد الرحمن مجيد الربيعي، أطال الله عمره . ما رأيك بالعلاقة الملتبسة بين الأكاديميين والمثقفين ؟ نعم، هي علاقة ملتبسة، يشوبها حذر من نوع خاص، وحسب رأيي، فإن مصدر ذلك يرجع إلى فهم كل من الطائفتين للكتابة الأدبية، إذ ترى الأولى الأكاديمية أنها يجب أن تخضع لمقاييس محددة، من مثل المنهج، والإحالة على المصادر والمراجع، والإقتصاد في إصدار أحكام القيمة . وغير ذلك مما هو متبع في مناهج البحث الجامعي، وبهذا الإعتبار فلا معنى عندها لتلك الكتابات التي لا تعكس تصوراتها لمناهج البحث المنظم، بينما الثانية المعبرة عنها بالمثقفة، والتي وإن تخرجت في الجامعات ودرست مناهج البحث، إلا أنها تدرك مسؤوليتها جيداً وهي أنها تكتب للرأي العام المثقف، أي المختصين وغير المختصين، كما أنها تدرك جيداً كذلك، أنها تتوسل لإبلاغ صوتها بوسائل الإعلام المقروءة مثل الصحيفة اليومية والأسبوعية والمجلات الشهرية، وهي جميعاً تتطلب مستوى في الخطاب والصياغة، يلائم بالضرورة بين مستويات مختلفة لجمهور مثقف، يظل يتسع بإستمرار. هذا أولاً، أما السبب الآخر لهذه العلاقة الملتبسة بين الأكاديميين والمثقفين، فهو إبتعاد الأكاديميين عن الحياة الأدبية العامة، والحل في رأيي يكمن في إقتراب أصحاب التخصص الدقيق من الرأي العام الأدبي، وفي إنفتاح صحافتنا الأدبية لتلك الرؤى الأكاديمية، التي بإستطاعتها لو أرادت أن تضيف الكثير إلى الحياة الأدبية، كإضافتها إلى الحياة العلمية المتخصصة داخل أسوار الجامعة . كتبت عن أدباء ومفكرين تونسيين، فهل أضفت جديداً عما كتب من قبل؟ نعم كتبت دراسات لعديد الأعلام التونسيين، وقد حاولت ما إستطعت التقصي والإضافة، وحسب الأصداء التي بلغتني عبر الصحافة، فإني أكون وفقت لما كنت أريد والحمد لله، ما هي أهم الكتب التي ألفتها وتعتقد أنك أتيت فيها بالجديد؟ أتصور أنها الكتب التي دارت حول الأدب التونسي، دراسته ونقده، «في الأدب التونسي المعاصر» و«أضواء على الأدب التونسي» و«من أدب الرواية في تونس» و«الصورة والأصل» كما أني أعتز بكتبي حول أدباء تونس، مثل الصادق بسيس وعثمان الكعاك، وأبي القاسم الشابي، والفاضل بن عاشور . ما هي أنواع قراءاتك؟ أتابع بإنتظام ما يصدر هنا وهناك، من إنتاج أدبي وفكري وثقافي، كما أني أحرص على قراءة كتب معينة قديمة وحديثة شغلتني الظروف على مطالعتها، مثل كتب الجاحظ وأبي حيان، لأني كلما أعدت قراءتها إكتشفت فيها الجديد الذي لا يبلى، وإكتشفت فيها معنى الإنقطاع للعلم والأدب وطلب المعرفة بلا حدود. مكتبتك غنية بالمصنفات الأدبية المتنوعة، ماذا تعني لك هذه الثروة التي لا تبلى؟ أتعامل معها تعامل الحريص على ثروة ذات خصوصية، هي كل ما توفر عندي في هذه الحياة الفانية، هي مصدر معارفي، ومصدر سلواي، ومصدر ثقتي في بقاء الكلمة الحرة، ما بقي الإنسان حراً في هذا الوجود . لو لم تكن أبو زيان السعدي الكاتب المثقف والناقد الحصيف، ماذا كنت تتمنى أن تكون؟ يلتبس الأمر علي الآن، لكنني أتصور أنني سأكون سياسياً منظراً، ومشرفاً على منبر إعلامي ينقل صورتي إلى الآخرين . مع هذه المسيرة الجادة والثرية، هل للحب مكان وموقع ؟ نعم، هو حب واسع وعميق، يشمل زوجتي وأسرتي وأبنائي، كما يشمل كل أبناء الإنسان حيثما كانوا .