هكذا نجد أنفسنا أمام موهبة حقيقية، سابقة لأوانها لا محالة، ولكنها بالاصرار والتكوين الذاتي المستمر، استطاعت أن تثبت جدارتها بأن أصالتها متينة، وأن صاحبها قد أوتي العزم الذي يخرج بأمنيات الأحلام، من اطارها المتخيل الى عالم الحقيقة الواقعة. بقلم: أبو زيان السعدي في رحاب جامع الزيتونة وبما أنه كان محبا للعلم والمعرفة والادب، وحريصا على أن يكون في مستوى الطموح من آماله، فقد فارق مدرسته «العرفانية» الأثيرة الى نفسه، للدراسة في جامع الزيتونة المعمور، وهو في الثالثة عشرة من عمره على ما أرجح أي في سنة 1924، وكان يؤمل أن يكمل دراسته بالجامع الأعظم حتى النهاية، والتي تنتهي في ذلك الوقت بشهادة التطويع، ولكن ظروف الفقر القاهرة كما يقول حالت بينه وبين ما يريد (9) اذ بقي في تلك الرحاب مدة ثلاث سنوات على وجه التقريب فاضطر آسفا الى الانقطاع عن التعليم، والالتحاق بعالم الصحافة والادب، كما سنذكره بعد قليل، بيد أنه تمكن خلال تلك المدة القصيرة، من الاطلاع على آثار أبرز الكتاب الشرقيين والمهجريين، من أمثال العقاد وطه حسين وهيكل باشا والمازني، من أدباء مصر، وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي، وغيرهم من أعلام المهجر الأمريكي (10) وجميعهم كما هو معلوم، يمثلون الحداثة الادبية العربية في أرفع مستوياتها، وشقوا لها حضورها الواضح في ثقافتنا العربية الى اليوم، وقد كانت زمالته أثناء الدراسة، لمصطفى خريف ومحمود أبورقيبة وجلال الدين النقاش، وهم شعراء سيكون لهم شأن فيما بعد، خير مشجع له، على المضي في احتراف الأدب والصحافة، اذ تصور كما تصوروا أن الادب بمعناه العام، هو الوجود الحقيقي لما ينزعون اليه في هذه الحياة، بل هو الرسالة المنتظرة، التي ينبغي أن يضطلعوا بها تجاه أنفسهم والمجتمع وتجاه العالم أيضا، حيث يقول عن أولئك الزملاء المغامرين: «وتوطدت بيننا الصداقة، فكنا نلتقي بعد الدرس، لنتناشد الأشعار التي ننظمها في محاولاتنا الأولى، ونتولى تبادل النقد والاصلاح، كما نطالع ما يصلنا يومئذ من الأدب المشرقي والمهجري، ولم يطل بنا الزمن حتى مللنا الدرس وبارحنا جامع الزيتونة، ننهل من الأدب ونبتدئ التحرير في الصحف، نكتب في السياسة والاجتماع والفن والادب، ولم يتابع دراسته بالجامع الأعظم الا الأخ جلال الدين النقاش، تحت ضغط المرحوم والده» (11)، فالفقر والملال من الدرس، عاملان أساسيان في انقطاعه عن التعليم، وتوجهه نحو احتراف الصحافة، وللآخرين من زملائه أسبابهم أيضا في الانقطاع عن التعليم، لا يتسع وقتنا هنا للإلمام بها. في بلاط صاحبة الجلالة المهم أنه التحق بإحدى المطابع، هي المطبعة الأهلية بنهج الديوان، يصفف الحروف وينضد الصفحات، لتأخذ طريقها الى السحب في ما بعد، وكانت هذه المطبعة وقد آلت الى ملك الاستاذ زين العابدين السنوسي ملتقى أو ناديا لعدد من الكتاب والصحافيين الكبار، أمثال محيي الدين القليبي وعلي كاهية وعبد الرحمان الكعاك وأبي الحسن ابن شعبان ومصطفى آغة ومحمد الشاذلي خزنه دار، يذكر الاستاذ عثمان الكعاك وكان ضمن الجالسين أنه نظر الى الخلف قليلا، حيث: «كان هناك شاب في السابعة عشرة من عمره الفم في المخله والعين في النادر فهو ينظر الى الحروف يجمعها، لكن أذنيه تستمع بدقة، وتتلقف ما كان يدور من حديث، في ذلك النادي الزجاجي» (12)، ومعنى هذا أن صاحبنا الفتى العبيدي، كان شغوفا بالثقافة والأدب، ويريد أن يتعرف الى ما كان يدور من ألوان الحديث، بين أعلام عصره، ولم لا نقول بأنه يرغب قريبا أو بعيدا في أن يصبح واحدا منهم، له من الرأي والكلمة المكتوبة، ما يشق به طريقه نحو ما يتمنى ويريد. وبما أن تلك المطبعة كانت مثابة لأرباب الصحف الشهيرة في ذلك الوقت، أمثال: محمد الجعايبي، صاحب جريدة «الصواب» وحسين الجزيري صاحب «النديم» والبشير الخنقي صاحب «لسان الحال»، فقد كانت فرصة لا تعوض للفتى الطموح لأن يتعرف اليهم، بقصد الاستفادة من تجاربهم في العمل الصحفي، والوقوف على أسرار ما ينشر وما لا ينشر من ألوان الرأي والخبر والتعليق، وصولا الى هدف أساسي، يشكل أعز أمنياته، ألا وهو العثور على موطئ قدم في هذه الجريدة أو تلك، يصبح بمقتضاها صحفيا معترفا به، وصاحب قلم يشار اليه بالبنان كما يقال، وكان لابد مما ليس منه بد، اذ تجرأ وفاتح الاستاذ محمد الجعايبي، برغبته في الكتابة الصحفية، وكانت المفاجأة السارة أنه قابله بكل لطف وتشجيع، فكان ذلك خير حافز له على تحرير عديد المواضيع الاجتماعية من مثل نقد حالة التعليم الزيتوني، وقضية المرأة وحقها في التعليم، وحجابها وسفورها وطلاقها، ولكن هذه المقالات الأخيرة أحدثت ردود فعل مختلفة ضده، ممن لا يرون رأيه في قضية المرأة، ولكنه رد عليها بثبات، وقدم من الأدلة ما دل على مدى استيعابه لهذا الموضوع الشائك، كما دل على مضاء أسلوبه في نقد خصومه، والسخرية منهم أحيانا لقد كتب الهادي العبيدي هذه المقالات في جريدة «الصواب» سنة 1928، وهو ما يزال في بداياته وأعيد نشرها مع كتابات أخرى، ضمن كتاب بعنوان «تحت السور» سنة 1992، بإشراف ابنه الدكتور المعز لدين الله العبيدي: «وقد كانت هذه الخصومة التي خاضها الهادي العبيدي عن المرأة سببا في تحرّك المرحوم الطاهر الحدّاد، الى تحرير مقالات في الموضوع نشرت في «الصواب» ثم الى التوسّع في البحث، الذي انقلب الى كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» وما أثاره هذا الكتاب من ضجّة، مسجّل ومعلوم في صحف ذلك العهد» (13). والحق إن الهادي العبيدي ظل على نهجه في الانتصار الى المرأة والدفاع عن قضاياها، اذ كان ضمن قلة قليلة وقفت الى جنب الطاهر الحدّاد، حين اشتدّ عليه الخصوم، وكان من بين الذين دعوا الى تكريمه في الحفلة الشهيرة بالبلفيدير، يوم 17 أكتوبر سنة 1930، ويومها وقف خطيبا يدافع عن الحدّاد، ومواقفه كما وردت بكتابه (14) وقد ظلّ على نهج الوفاء هذا، نحو صديقه الى أن أدركته الوفاة، في 8 ديسمبر سنة 1935، «وعلى قبره ألقى قصيدة مؤثرة نقتطف منها الأبيات الآتية: قفوا حيّوا المجاهد والعميدا وصلّوا لنبوغ قضى شهيدا قفوا وابكوا الرجولة والمبادي فذا معناهما أمسى لحيدا ثم يقول في ختامها: أخي إن سامك السفهاء سوءا وكان زمانكم نذلا كنودا فلا تحزن فذا التاريخ عدل سيمنح اسمكم منه الخلودا وموت في مباديكم حياة تفيض على الدنا فجرا جديدا خيالك خالد في كل قلب وذكراكم ستغدو لدينا عيدا (15) بين الصحافة والأدب والذي يبدو ان الهادي العبيدي، قد وجد ضالته المنشودة في الصحافة، لأنها أتاحت له ان يعبّر عن آرائه في الكثير من القضايا التي كانت تشغل بال الشعب التونسي أيام الاستعمار البغيض، ولأنها وفّرت له منبرا لمباشرة ألوان من الفنون التي كان يعشقها، من مثل النقد المسرحي، والنقد الفني، ومن مثل قضايا التجديد الأدبي بعامة والتجديد الشعري بخاصة، فضلا عن الموضوعات السياسية الداخلية والخارجية، وقضايا المجتمع والنشاط الثقافي العام، لقد وصفه الأستاذ الحبيب بولعراس، بأنه «كان أديبا بالمعنى المعتّق للعبارة... ولست أدري إذا كان نزوله الى العمل الصحفي جاء للتعبير الأدبي بواسطة هذه الأداة... أو كان للمشاركة في الحياة العامة... وإن ما يدفعني الى ترجيح الدافع الأدبي، هو أن الهادي العبيدي، انجرّ الى الكتابة السياسية شيئا فشيئا، بحكم وطنيته وحميته... لكنه بقي في كل الظروف، مرتبطا ارتباطا حميما بالأدب، شعرا ونثرا» (16). نعم ان الهادي العبيدي جاء الى الصحافة، من موقع الأدب بآلياته ليتخذ منها منبرا كما قلنا منذ قليل للبيان والتبيين، والكشف عن جوهر تجربته النفسية والفكرية والفنية، عبر المتعارف عليه من نماذج الأدب، كالقصة والخاطرة والمقال والقصيدة والزجل وخاصة إذا علمنا ان صحافة العشرينات الى الخمسينات من القرن الماضي، كانت تعتمد الهواة والمتطوّعين من كتّاب المقال السياسي والاجتماعي بالدرجة الأولى، وتهتم تبعا لذلك بالأنواع الأدبية المختلفة، يتولى امرها كتّاب محترفون لديها امثال الهادي العبيدي ومحمود بورقيبة وعلي الدوعاجي، وغيرهم من المهووسين بالأدب وفنونه، وقد كان أنموذجهم المحتذى في ذلك، العقّاد وطه حسين، وإبراهيم عبد القادر المازني ومحمود بيرم التونسي،ولهم العذر كل العذر في ذلك، لأن حركة نشر الكتاب في تونس كانت محدودة، أو فلنقل لا يقدر عليها إلا نفر قبل من أصحاب الجاه والمال، والقدرة على مغالبة صعاب التوزيع، والقدرة على التنقّل من مدينة إلى أخرى. ونتيجة لذلك اطمأنّ صاحبنا الى الصحافة، بحلوها ومرّها ومتاعبها، متحمّلا شقاءها العذب من بداية درجاتها الى أعلاها، حيث يقول: «وقد مارست الصحافة في جميع فنونها وأبوابها، منذ ذلك سنة 1927 حتى اليوم سنة 1956 مصحّحا ومحرّرا، ناقدا فنيا وأدبيا، سكرتيرا للتحرير، مديرا لبعض الصحف، ورئيس تحرير، ومارست كل هذا في الصحف الأسبوعية واليومية، والمجلات والنشرات الدورية، وذكرياتي في هذا الصدد، لو اتّسع لي الوقت لتسجيلها لضمّها كتاب ضخم» (17) مع «جماعة تحت السور» لقد كانت الصحافة كما رأينا النافذة التي أطلّ منها الهادي العبيدي على العالم الأدبي، ومن خلالها استطاع أن يثبت وجوده ككاتب صحافي وأديب، معتمدا على موهبته بالأساس، وعلى ما أتاح لها من تكوين وصقل مستمرّين، بيد أن انتمائه العضوي الى ما أصبح يُعرف في ما بعد بجماعة «تحت السّور» قوّى فيه ذلك الطموح الى الذيوع والانتشار، ذلك أن هذه الجماعة التي تألّف عقدها في سنة 1929 كما يقول العبيدي وهو من أعمدتها وضمّت على توالي المراحل مجموعة من الأدباء والفنانين هم: عبد الرزاق كرباكة والهادي العبيدي والعربي الغرياني وحمدة بن منصور، ومحمد بن فضيل وعلي الدوعاجي ومحمد العريبي، ومصطفى خريف وعبد العزيز العروي وحاتم المكي وجلال بن عبد اللّه، والتي اتخذت لاجتماعاتها اليومية والليلية مقهى أصبح يُعرف بمقهى «خالي علي» بنهج البيقة، المسامت لنهج باب السويقة.