في أولى سنوات التحاقي بجامع الزّيتونة كان عهدي قريبا بالكتّاب ' وبأحزاب قرآنية حفظتها فيه ' بحثّ وحرص ومتابعة من والدي – رحمه اللّه- الذي ما ترك لي من أوقات الفراغ – ولا أقول اللّعب- شيئا يذكر. فمن ساعات الصّباح الأولى أقصد الكتّاب لعرض لوحتي التي حفظتها ليلا' ثمّ الالتحاق بالمدرسة ' وبعد مغادرتها أعود إلى المؤدّب لاستملاء لوحة أخرى' أحفظها ليلا وأستظهرها صباح الغد. كنت أعمل كآلة تراقبها عين الوالد السّاهرة ' فلا عطالة ولا توقّف. والنتيجة كانت إجادتي لنصيب وافر من أحزاب القرآن الكريم أيقنت فيما بعد من إثرائها لرصيدي اللّغويّ' ومن فائدتها في تقويم لساني ' حتى وإن لم أفهم كثيرا مما كنت أحفظه وأردّده حبّا متراكبا ' كما يقال. بعد انقضاء سنة على التحاقي بالجامع في تونس' وأثناء عطلة رمضان لم يرق لوالدي أن أقضي أيامي دون درس وتحصيل ' فإذا كان الظهر سحب من خزانته رزمة من مجلّة « جوهر الإسلام» الصّادرة عن الجامع الأزهر بمصر' وطلب منّي الاستفادة بما فيها من تفاسير ومقالات دينية ' فكنت أتظاهر بالاستجابة ' حتى إذا انصرف إلى قيلولته ' أو خرج إلى شغله ' سارعت إلى مكان أخفي فيه كتاب المنفلوطي « تحت ظلال الزّيزفون» ونسخة مهترئة من « ألف ليلة وليلة»' وأغطس فيهما غطسا. أما صباحا فيرسلني أتعلّم تجويد القرآن عند الشيخ فرج بوزيد الذي أرسلته مشيخة الزيتونة إلى فرع بنزرت المستحدث ' فتكوّنت حوله حلقة تلامذة ومريدين طالبوه بالتّدريس حتى في أيام العطلة . والشيخ فرج رجل ضرير قدم من قرية بو حجر الساحلية ' حافظ للقرآن وحامل لشهادة تخصّص في علوم القراءات 'له صوت جميل يأتي الناس خصّيصا لسماعه في صلاة التراويح ' كما له أداء مطرب عند إنشاد الأذكار والمدائح في المواسم الدينية بالجامع الكبير أو بمقام أحد الأولياء. ولقد تساهل – بعد استقراره بيننا - مع بعض من تقرّبوا إليه فأحيى سهرات دينيّة أو مولديّة في بيوتهم ' يقود فيها فريق منشدين ' يكون هو قطبه وأجلى صوت فيه. وكان والدي ممن أحبّوا الشّيخ وساعدوه على كراء بيته وتنظيم مقامه ' في وقت كان فيه محتاجا إلى العون ' في مقابل ذلك اعتنى الشيخ بتعليمي التجويد' خاصّة وقد استحسن أدائي' وأعجبه صوتي الذي لم يصب بخشونة البلوغ ' وحافظ على نعومة الطفولة والصّبا. فكان يقدّمني في حلقاته لأعطي المثل لسائر المتعلمين' وأغلبهم يكبرني ، ولكن أقلّ منّي دراية بقواعد القراءة الصحيحة التي يخصّني بها الشيخ غالبا. وأحيانا كان أبي يطلب منه اصطحابي إلى حلقات الإنشاد لأحفظ عنه « البردة» أو « الهمزيّة» ' فتراني أنحشر بجسمي الضئيل بين رجال ضخام تزلزل أصواتهم جدران المكان ' وأحاول مجاراتهم بحنجرتي الضعيفة فلا أستطيع. ولمّا تبيّن للشيخ أنني حفظت بعض القصائد أخذني إلى احتفال رمضاني بذكرى غزوة بدر' وإذا به في منتصف السهرة يأمر الفريق بالصّمت والإنصات ويدفعني إلى إنشاد منفرد ' فأرفع صوتي الرّقيق متردّدا في الأوّل ' ثم أنظر إلى شيخي يوجّه نحوي نظّارته السّوداء ' ومن تحتهما عينيه الفارغتين' ويميل برأسه يمينا ويسارا ' كمن أحسّ بالطّرب' فأتشجّع وأندفع مترنّما كمن يسكب بلسما مهدّئا في آذان شرختها أصوات زملائي الخشنة: «سلبت ليلى مني العقلا ٭ قلت يا ليلى ارحم القتلى». فيردّد الجماعة بعدي «ملتزمين طبقة القرار بإشارة من الشيخ الذي كان يرفع كفّيه قليلا ثم يضعهما على ركبتيه لتنظيم الإيقاع.كنت أنتشي من مثل هذه المواقف» رغم خروجي منها مضطربا مقلقل النّفس «شاعرا بأنني أدفع إلى مغامرة لم أتهيّأ لها بعد» أو أنني أحشر بين قوم لا تجانس بيني وبينهم «فكأنّني الطّفل الصّغير المتطفّل على كهولتهم» او كأنّهم الرجال الكبار القاهرون لطفولتي المحاولين افتكاكها. أما الوالد فكان يقف بعد كلّ حفل مزهوّا بابنه الذي بدأ يحرق المراحل. وكما كانت والدتي تصرّ على أن أكبر بسرعة «فتجبرني على الصّيام قبل موعد وجوبه على مثلي» وتحجب عنّي زائراتها «وتطلب رأيي في أشياء لا أفقهها» أو لا تهمّ سوى الكبار«مردّدة على مسمعي في كل مناسبة: «راك ولّيت راجل» ...كذلك كان والدي يتعجّلني هو أيضا فلا يرى فائدة في أن ألهو وألعب مع أترابي» ولا يتصوّرني إلاّ في هيئة الطالب المنكبّ على لوحة المؤدّب أحفظها «أو مصحف القرآن أكرّر منه ما حفظت» ولا يرى من ضروريّ لحياتي إلا تحصيل العلم والتفقّه في الدّين «أما التنزّه» ومخالطة المجتمع «وممارسة الرّياضة» والارتماء في البحر القريب من بيتنا «فليس في ذلك – حسب رأيه - ما يفيد» أو يعين على اكتساب الرّجولة الحقّ.