فاستحال الفضاء في الكتابة الشعريّة لديهما أسّا من أسس العمليّة الإبداعيّة وانقلبت بذلك القصيدة من لحظة السماع إلى لحظة القراءة، وأصبحت العين بدل الأذن سيّدة التقبّل، فانتهت بذلك اللحظة المنبريّة ليتعامل الشاعر مع متقبّل قارئ لا متقبّل سامع، كما انقلبت الخطوط وطرق توزيع السطر الشعري لحظة شعريّة بامتياز تقرأ، ولكن التغيير الذي اعترى شكل القصيدة ... يكاد يقف عند التجديد في الشكل العروضي (الأوزان والإيقاعات)، ولم يقترب بعد من مجال اللغة وما يتّصل بها من تشكيلات بلاغية مغايرة للتشكيل المجازي القديم الذي يتعامل مع الصورة الشعرية كزينة وصفية وتوشية ظاهرة لا تدخل في صميم البناء الفنّي للقصيدة ولا تتدفق من نفس المنبع الذي تخرج منه الصورة الكليّة أوالبناء الفنّي المتكامل (*) والنصّ على ما يحمله من تجديد في الشكل من حيث طرق الكتابة والانفتاح على فنون أخرى كالمسرح حيث لعب الحوار في قصيدة آدم فتحي دور تعرية لما يعتري الذات الشاعرة من أحزان وأسئلة حارقة، بقي النصّ وفيّا لهويّته الشعريّة من حيث المعنى كما لم يقطع مع الأب الشعري وخاصة في باب تعريف الشعر بأنّه “كلام ذومعنى” رغم أنّه يتزيّا بزيّ حديث ويعلن عن هويّة مغايرة قاطعة هكذا ذهب بهما الظنّ بأنّهما يكتبان على وقع هويّة مغايرة وحديثة تدشّن عصرا شعريّا جديدا، ولكنّها في الحقيقة بقيت وفيّة للأمس الشعري. كتابة القطيعة هي كتابة نسفت كلّ الهويّات لتنتصر لهويّة الذات/ الشعر، لهويّة الكلمة، لهويّة النصّ والنصّ فحسب. قصيدة تتعبّد لنفسها أولغة تتمرأى في ذاتها ... حملت معها من النواهي ما يلزم الشعر بأن يتجنّب أيّ تراسل مع الخارج، ألزم الشعر بأن يكون حجرة داخليّة تعيش في نور نفسها . هكذا انتفى الموضوع تقريبا، كما انتفت المباشرة، وانتفى بالطبع كلّ سرد أووصف وما عاد في وسع الشعر إلاّ أن يدور حول موضوع المواضيع وسيره السير والشعر أعلى (*) وقطعت مع كلّ الإكراهات ( الوزن / المعنى ) لتدشّن بذلك عصر الكتابة الخالصة كما أطلق عليها الأستاذ المنصف الوهايبي والتي تمثّلها أسماء عديدة مثل الشاعر عبد الفتاح بن حمودة وآمال موسى ... فالشعر لدى هذا النوع من الكتابة عمل جواني يتجنّب أن يستعير من الخارج اسما أومناسبة أوموضوعا ... الشعر كلّه أمامها وكان عليها أن تبني نفسها دائما كعالم مواز، كذات أخرى (*) فهي نصّ منغلق على عالمه الشعريّ منه ينطلق وإليه يعود في حركة دائريّة متقوقعة غايتها الإنصات للغة وللذات فيكون بذلك الشعر خالصا لا تشوبه شائبة، فهذه الكتابة أكثر اشتغالا بالشعر وتكرّسا له (*) إنّه احتفاء بالشعر لذات الشعر، صفتها الاختزال والتكثيف والإيحاء والقطع مع الأطناب والوصف ... إنّ قصيدة النثر منذ منتصف الثمانينات هي (قصيدة العولمة) وهي تعبير طبيعي عن حالة التشظي العربية منذ نهاية الحرب الباردة وهي أيضاً تعبير عن (حالة التجريد) و(تبريد اللغة الشعرية) الذي يلتقي مع مفهوم محوالهوية.. الذي تريده العولمة) . إن قصيدة النثر جنس مستقل ونص مفتوح على الأنواع وعلى الآخر (هجين) أما أيديولوجيا قصيدة النثر فهي اديولوجيا العولمة بجمالياتها الشكلية ووحشيتها المرعبة فهي تعبير عن الحوار مع الآخر بشروط غير مثالية.. إذ تنطلق من التلذذ الوجودي المتعالي بالتبعية مع ملامح دونية واضحة خصوصاً إذا كان التوحيد القهري هوالبديل لتنوّع الهويات (*) وهذا ما نلحظه في قصيدة عبد الفتاح بن حمودة الموسومة «إعادة قراءة للصباحات». افعلي أيّ شيء أيتها الشمس، اجرحي قميصي الأزرق البارد، اضحكي من أنفي المدبب، استهزئي بشفتيّ الفقيرتين، لكن ضعي حبّات لقمح على ركبتين خفت وحدي من ارتعاشهما، أدخلي – بهدوء – إصبعين في عينيّ الغائرتين ( لم أعد أرى شيئا ( أيّ شيء) طوال الليل ) لا تخجلي من وضع حبّات الفلفل البيضاء الحارة في منخريّ، حتّى أسخر من عقاب الأطفال بذلك الشّكل المدهش، لا تخجلي .. افعلي أيّ شيء .. ضعي إبرة مذبّبة في مؤخرتي حتّى أتكلّم .. رجاء .. افعلي أيّ شيء لكن لا تعذّبي أصابعي في الفجر غرّدي أيتها الأغصان هذه المرة ... إلى الأبد وكذلك قول آمال موسى في قصيدتها ” وفي نفسي وقعتُ” فَارِغًا مِنْ كُل هَوى يَمُوتُ مَنْ وَقَعَ فِي غَيْرِ طِينِه وسَكن النُّفُوس المُجَاوِرَة مُنْتَشِيًا بِقصصٍ حَمْرَاء كالشَّهواتِ تَمْتصُّ مِنْهُ البَياض وَتَسْطُوعلى يَاقُوتِهِ النَّائم في عُمْق المَاء. ألا تَبَّتْ نَفْسٌ لم تَقعْ في نَفِيسِهَا ولم تَملأْ القِنديلينِ بوجهها المُتفَتِّحِ في المَاءِ المُرْتعشْ. فَهَلْ أَنَّ نفسَ النفس، لا تُطرب أَمْ ابتلاءُ المَرءِ، أَدْماهُ الوقوع في غير نفسه مَنْ وَقَعَ في غيره كَمَنْ تَهَاوَى مِن الثُّرَيَّا في ليلٍ غاسقٍ ومَنْ أَدْركَ في عناصِرِهِ الحُلولَ كَمَثَلِ من قَطفَ النُّجوم عنْدَ قَرْنِ الشَّمْسِ وَقَدَّ عَرْشًا بِخَاتِمِ المَلِكِ. قليلاً، جَرَّبْتُ الوُقوعَ زَمَنًا ظَنَنْتُ فِي الجِنان النّسيانُ وفِي التنزه الاغتسالُ وأنَّ ذَهابَ النفسِ طويلاً عَنْ هَوَاها فتحٌ أرى فيه ما ينقصُ الطِّفْل ليكون مُريدا وآدم كي يُسمّى بطلا في الخلق. يَا أَيَّتُهَا النَّفْس بَيْتِي أَنْتِ وسَريرِي وثوبُ نوْمي الشَّفاف فِيكِ يَرْقُدُ السُّوء وفِيكِ أَعَدُّ بأصابع كل الخلق خطايا السابقين كأنك امْرأة وكُلُّنَا رجالٌ نسكنك فرادى نَلْقَاكِ وِسْعًا وَسَكَنًا عَبِقا بالعنبر وبدخانٍ مُعطَّرٍ ببخورِ القُدَامَى حين تَسْتَفْرِدِينَ بِي تَكْبُرُ وِحْدَتِي إلى أَنْ أُصْبِح صغيرة وأشْعُرُ أنَّ جُنُونِي لاَ يُضَاهِيك. فِي هيكلكِ الزِّئْبقِي يَعُودُ الدِّفء إلى قطراتِ الشَّمعِ العاطفية وَحْدُهَا الشَّمعةُ ذات الهوى الشرقي أكثرُ منّي ذوبانًا. كلُّ الواقعينَ في أنصافهم المتوهِّمة ناقِصُونَ هَوى قلوبهم مشرئبّةٌ للعشقِ يُبدِّدونَ الحين وروعة الانْصِراف إلى حمَّالةِ الماءِ في تَفْتِيتِ تَصَوّفٍ يَضيقُ على فُؤادٍ يَنْبِضُ بِأكْثَرِ مِنْ صُورة فَمَنْ ذَا التِّي تَشفَعُ لنفسها غيرُ نفسها وَمَنْ ذا الذِّي يَسْتبْدلُ وقوعًا بتهشم. أُقْسمُ أَنِّي لَنْ أرومَ غيري متّسعا وَعْدُ نفسٍ وعتْ بِلادها الشَّاسعة وَفُصولها اللاّمتناهية ولَذَّة يُشْبِهُ عنبها ثَدْيًا مَرْمَرِيّا سَقَطَ فِي نشوةِ أُنثى. أَعُودُ إليَّ مُتيّمة أَلُوذُ بالمعنَى في ليلٍ ساطعِ اليقين ضَفائِرُهُ تُشبهُ المَدَى أَنْتشِي بِعناقِ البعض لبعضه وصلاة كلّي لكوكبي وأحفرني بئرا عميقة الارْتِواءُ منها، كعينين من زمرد».