على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال الرئيس الأمريكي أمس الأول انه يتمنّى رؤية دولة فلسطين في ظرف سنة.. أوباما كان يتحدث من منطلق الخوف من فشل جولة «المفاوضات المباشرة» بين الفلسطينيين والاسرائيليين التي انطلقت مجدّدا خارج رحاب الأممالمتحدة.. ما يحدث الآن صلب هذا الملف بخصوص القضية الفلسطينية لا يستقيم لا مع متطلبات الثورة وهذا واضح من الأساس، لكنه كذلك أمر لا يتوافق مع منطق السلام ولا مع مقتضيات المفاوضات.. التفاوض هو شأن بين طرفي نزاع، تكون الثورة والمقاومة المسلحة أساسا هي الموصلة له.. لكن رصد المشهد الحالي للقضية الفلسطينية، ينبئ بأن ما أسّست له الرجعية العربية بأوامر من الامبريالية فترة السبعينات والثمانينات الماضية، يُطبّق الآن.. وقد رأينا أهمّ نتيجة لذلك، وهي خروج الملف من دائرة الأممالمتحدة، بما سمح للرئيس الأمريكي الحديث للعرب بأن التطبيع مع اسرائيل الآن أما السلام فسيكون بعد عام.. فيما يواصل الكيان الصهيوني عمليات الاستيطان دون ردع أو عقاب.. في حلقة الأمس تطرّقنا الى «مشروع روجرز» الذي قدمه وزير الخارجية الأمريكي سنة 1970، ويحمل المشروع اسمه، وأهمية الحديث عن المشروع تكمن في أن رئيس الديبلوماسية الأمريكية، قدم مشروعه الى عبد الناصر الى جانب الأردن والكيان الصهيوني.. وافقت مصر عبد الناصر على مشروع «وليام روجرز» يوم 23 جويلية فيما وافق عليه الأردن يوم 26 من نفس الشهر سنة 1970، فيما أبدت اسرائيل موافقة متحفّظة يوم السادس من أوت لنفس السنة.. لم يكن متوقعا أن يقبل الزعيم جمال عبد الناصر بمشروع روجرز، ذلك أن المشروع ينصّ على تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 242 الذي تلا عدوان 1967.. ولكن مشروع روجرز لا يدعو صراحة الى تنفيذ القرار المشار إليه، والذي مثل نقطة خلاف في مستوى الترجمة.. بل ان «مشروع روجرز» دعا الى الدخول في مباحثات قصد التوصل الى اتفاق سلام «عادل ودائم» على أساس الاعتراف ب«السيادة» المتبادلة للكيانات الموجودة.. وطبعا كان القصد منه تأمين اعتراف بوجود اسرائيل.. في توقيت كان مجرّد الاعتراف بالقرار 242، ضربة أو خيانة للقضية الفلسطينية.. لكن في هذا المستوى، لا بدّ وأن نوضح بأن عبد الناصر، بقبوله «مشروع روجرز» الذي يقارع به أعداء عبد الناصر مريديه على أساس أن الزعيم القومي الذي لا يؤمن بوجود «اسرائيل» أصلا، ها هو يعترف بمشروع أمريكي فيه اعتراف وتفاوض «ب» و«مع» الكيان الصهيوني! من المؤكد أن قبول عبد الناصر بمشروع «روجرز» كان قبولا تكتيكيا.. فقد كان الزعيم يزيح كل العقبات التي يمكن أن تحدث فتنة، خاصة على خط النار بين الاخوة الأعداء: النظام الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية وأساسا «فتح».. والأوكد من ذلك، أن عبد الناصر كان يكابد الصّعاب، من أجل تأمين الردّ العسكري المناسب الذي سيلقّن «اسرائيل» درسا لا يمكن أن تنساه، حين تجاسرت واعتدت على مصر (1967) قلب الأمّة النابض وقتها.. وقد تبيّن بلا مواربة، أن عبد الناصر كان يعدّ العدّة لحرب العبور.. وحين أتى السادات خليفة لناصر، لم يكن باستطاعته التراجع ولا كشف أسرار وخبايا «حرب العبور» الى الأعداء، ذلك أن السادات، ومهما كان مستوى تعامله مع الأعداء، من أمريكان أساسا، يبقى في تلك اللحظات الحاسمة بالذات، ملتزما بالبزّة العسكرية وبشرف المهنة، إن كان مرغما وخوفا من المؤسسة العسكرية، أو وفق مقتضيات المهمة التي يتحمّلها: القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية... كانت هذه مظاهر قبول عبد الناصر ل«مشروع» «روجرز» والأمر لا يحتاج الى ذكاء استثنائي، لأن من كان به همّ الانحدار وعبد الناصر بعيد عن هذا بشهادة أجانب من ساسة العالم وعلى رأسهم الجنرال ديغول الى الأسفل، ما كان ليقدم على تحضير حرب تحريرية ضخمة، لو سارت على الميدان وفق أهدافها الاصلية لتحرّرت نصف فلسطين والجولان وسيناء... ولتبدّلت المعطيات التي كان يخشى حدوثها الامريكيون والاوروبيون والصهاينة... وحتى السوفيات... انطلقت الثورة الفلسطينية من جديد، بعد أن عارضت «مشروع روجرز» بتنسيق مع عبد الناصر، حسب ما أفادنا به بعض كبار المسؤولين المصريين عسكريين وسياسيين، عبر لقاءات مع «الشروق» (سابقا) وكذلك من خلال ما أسرّ به قادة فلسطينيون ل«الشروق» أيضا... فقد نادى عبد الناصر، كوكبة من القيادة الفلسطينية في م.ت.ف، وقال لهم ما معناه، إنكم غير معنيين بمشروع «روجرز» لذلك نسجّل مهاجمة م.ت.ف. وكل فصائلها للمشروع وبشدة، مؤكدين أنه يعني تنازلا نهائيا عن تحرير فلسطين... لكن في الآن نفسه لم نسجل هجوما فلسطينيا واحدا على شخص عبد الناصر ولا تشكيكا في نهجه وهدفه في تحرير كل فلسطين، من الفصائل التي كانت معنية... وقد يكون، وهذه فرضية، قد يكون عبد الناصر قبل «المشروع» أيضا، لكي يضع «اسرائيل» في بوتقة الاحراج والجدل تجاه أمريكا صاحبة المشروع، وذلك حتى يتمكّن من رأب الصدع قبل أن ينفجر الوضع بين الفدائيين الفلسطينيين و«التاج» الاردني... الامر الذي حصل بالفعل... فقد انفجرت الاوضاع بعض أسابيع بعد هذا «المشروع»... وكانت أحداث «أيلول الأسود» (سبتمبر 1970) مشفوعة بقمة رأب الصدع في نوفمبر (1970) ليشهد نفس شهر القمة، بل آخر يوم انتهاء أشغالها، وفاة الزعيم جمال عبد الناصر... بعد أن ودّع في المطار وآخر مشارك من المسؤولين العرب: أمير الكويت... فلم يعد لا الامريكيون ولا الصهاينة ولا حتى السوفيات، بحاجة الى مباحثات ولا مفاوضات بين الاطراف... لأن القادم سيكون أسهل مما يعتقد الملاحظون: حرب تحريرية... تتحوّل الى حرب تحريكية...