فيما آجال الاحتفاظ انتهت .. دائرة الإتهام تؤجل النظر في ملف التآمر على أمن الدولة    في كمين لقوات الجيش و الحرس ...القبض على أمير كتيبة أجناد الخلافة الإرهابي    ولاية بنزرت تحيي الذكرى 68 لقوات الامن الداخلي وتكريم الشهيد فوزي الهويملي    احداث لجنة قيادة مشتركة تونسية إيطالية للتعليم العالي والبحث العلمي    خلال الثلاثي الأول من 2024 .. ارتفاع عدد المشاريع الاستثمارية المصرّح بها    دعوة إلى مراجعة اليات التمويل    القصرين: الداخلية تنشر تفاصيل الايقاع بعنصر ارهابي في عمق جبل "السيف"    بوركينا فاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين    أخبار النادي الصفاقسي .. غضب بسبب عقوبات الرابطة وتجاهل مطالب الأحباء    رياح قوية    لأول مرّة في تونس وفي القارة الإفريقية ...شاحنة سينمائية متنقلة تتسع ل 100 مقعد تجوب ولايات الجمهورية    تم جلبها من الموقع الأثري بسبيطلة: عرض قطع أثرية لأول مرّة في متحف الجهة    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    ارتفاع عائدات صادرات زيت الزيتون بنسبة 82.7 بالمائة    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    أنس جابر خارج دورة شتوتغارت للتنس    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    توزر.. افتتاح الاحتفال الجهوي لشهر التراث بدار الثقافة حامة الجريد    سوسة: الاستعداد لتنظيم الدورة 61 لمهرجان استعراض أوسو    تخصيص حافلة لتأمين النقل إلى معرض الكتاب: توقيت السفرات والتعريفة    نقابة الصحفيين التونسيين تُدين الحكم بالسجن في حق بُوغلاب    الرصد الجوّي يُحذّر من رياح قويّة    عاجل/ محاولة تلميذ طعن أستاذه داخل القسم: وزارة الطفولة تتدخّل    عاجل : هجوم بسكين على تلميذتين في فرنسا    كأس تونس لكرة القدم: تعيينات حكام مقابلات الدور السادس عشر    بعد حلقة "الوحش بروماكس": مختار التليلي يواجه القضاء    حملات توعوية بالمؤسسات التربوية حول الاقتصاد في الماء    جلسة عمل مع وفد من البنك الإفريقي    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    انخفاض متوسط في هطول الأمطار في تونس بنسبة 20 بالمئة في هذه الفترة    عاجل/ وزير خارجية تركيا: حماس قبلت نزع سلاحها مقابل هذا الشرط    عاجل/ فاجعة جديدة تهز هذه المنطقة: يحيل زوجته على الانعاش ثم ينتحر..    عاجل/ تلميذ يطعن أستاذه من خلف أثناء الدرس..    عاجل : نفاد تذاكر مباراة الترجي وماميلودي صانداونز    اجتماعات ربيع 2024: الوفد التونسي يلتقي بمجموعة من مسؤولي المؤسسات المالية الدولية    ضربة إسرائيل الانتقامية لايران لن تتم قبل هذا الموعد..    زلزال بقوة 6,6 درجات بضرب غربي اليابان    عاجل/ هذه الدولة تحذر من "تسونامي"..    الحماية المدنية: 9 حالات وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    أبطال إفريقيا: ماميلودي صن داونز الجنوب إفريقي يحط الرحال بتونس    تركيبة المجلس الوطني للجهات والأقاليم ومهامه وأهم مراحل تركيزه    سيدي بوزيد: حجز مواد غذائية من اجل الاحتكار والمضاربة بمعتمدية الرقاب    ريال مدريد يفوز على مانشستر سيتي ويتأهل الى نصف نهائي رابطة أبطال أوروبا    الحماية المدنية تنتشل جثة الشاب الذي انهار عليه الرّدم في بئر بالهوارية..    مصر: رياح الخماسين تجتاح البلاد محملة بالذباب الصحراوي..    اليمن: سيول وفيضانات وانهيارات أرضية    بطولة شتوتغارت: أنس جابر تتاهل الى الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    الكاف: تلقيح اكثر من 80 بالمائة من الأبقار و25 بالمائة من المجترات ضد الأمراض المعدية (دائرة الإنتاج الحيواني)    الفضيلة    لعبة الإبداع والإبتكار في كتاب «العاهر» لفرج الحوار /1    وزير الصحة يعاين ظروف سير العمل بالمستشفى الجهوي بباجة    جراحة فريدة في الأردن.. فتحوا رأسه وهو يهاتف عائلته    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    مفاهيمها ومراحلها وأسبابها وأنواعها ومدّتها وخصائصها: التقلّبات والدورات الاقتصادية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أربعينية 5 حزيران وجدلية الهزيمة والمقاومة
نشر في الوسط التونسية يوم 08 - 02 - 2008

منذ أن أطلق الجيش الصهيوني هجومه الصاعق على مصر ، في فجر الخامس من حزيران/يونيو 1967 إلى حزيران /يونيو 2007 ، أربعو ن سنة مضت، ولم يكن أحد ليتخيّل أن الدولة الصهيونية ستستمرفي احتلال الأراضي العربية التي سيطرت عليها خلال تلك الحرب الثالثة، وأنّها ستتواجه بشكلٍ عنيف مع المقاومة الفلسطينية طيلة العقود الأربعة الماضية..
كان انبعاث السياسة الفلسطينية، الذي تكلّل بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، والعمليات العسكرية الأولى لحركة فتح في عام 1965 قد ولّد آنذاك عوامل جديدة. وقد أخذ المسؤولون الفلسطينيون تصريحات الأنظمة العربية "الاحترابية" على محمل الجد، فحاولوا إرغامها على دخول الحرب، من خلال نظرية التوريط.وبدت نتائج النضال الفلسطيني المسلّح ضئيلة في البداية - نحو 15 قتيلاً إسرائيلياً، معظمهم من العسكر، بين 1 كانون الثاني/يناير 1965، تاريخ أول عملية نفّذتها فتح و5 حزيران/يونيو 1967- ولكنها كانت أولَ إعادة نظر في انتصار إسرائيل في عام 1948-1949، واعتبرته إسرائيل فعلاً إعلان حرب. وقدّم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي وصل إلى السلطة في سوريا سنة 1963، في راديكاليته اليسارية ، الدعم للفلسطينيين واعترض بدوره على الأمر الواقع الذي كان الأكثر هشاشةً، لأنه الأقل قبولاً من المجتمع الدولي: أي سيطرة إسرائيل على المنطقة المجرّدة من السلاح بين البلدين (1).
في تلك الحرب الخاطفة حققت إسرائيل و الولايات المتحدة الأميركية نصرا كبيرا على الزعيم الراحل عبد الناصر والحركة القومية العربية. كانت إسرائيل هي التي اتخذت المبادرة بتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة في المطارات. هكذا بدأت "حرب استباقية" احتلّت إسرائيل في نهايتها أربعة أضعاف مساحة أراضيها، في الضفة الغربية والقدس الشرقية وسيناء والجولان.
ففي 5 حزيران/يونيو1967، قصف الطيران الحربي الإسرائيلي منذ الساعة الثامنة إلاّ ربعاً صباحاً مطارات مصر، حيث دمّر الجزء الأكبر من الطائرات الرابضة على أرض المطار.و في 6 حزيران/يونيو، احتلت القوات البريّة الإسرائيلية قطاع غزة، ودخلت المدرّعات صحراء سيناء.و في 7حزيران/يونيو، أكملت إسرائيل احتلالها للضفة الغربية لنهر الأردن وسيطرت على مدينة القدس القديمة (التي ستُعلن ضمّها يوم 27 حزيران/يونيو).و في 8 حزيران/يونيو، وصلت المدرعات الإسرائيلية إلى قناة السويس. فاستسلمت مصر.و في 9 حزيران/يونيو، التفت إسرائيل إلى سوريا، وبعد معارك عنيفة احتلت هضبة الجولان وصولاً إلى مدينة القنيطرة. وحصلت استقالة عبد الناصر وعودته في اليوم التالي عن هذه الاستقالة بعد نزول مئات آلاف المتظاهرين إلى الشوارع.و في 10 حزيران/يونيو، انتهت الاشتباكات المسلحة ، بعد أن ضاعفت إسرائيل مساحة أراضيها أربع مرات، وتم تشريد 400 ألف لاجئ فلسطيني جديد .
و رفضت إسرائيل إعادة الأراضي المحتلة وأبقت تحت سلطتها شعباً فلسطينياً مقاوماً معتبرة أن اللجوء إلى القوة وحده يحلّ المشاكل؛ وهذا ما أغرقها في أزمة سياسية وأخلاقية عميقة، ليست فضائح الفساد المتكرر سوى واحدة من ظواهرها.
إن هزيمة 1967 ناجمة عن حسابات خاطئة وأخطاء بشرية. فقد أقدم عبد الناصر على إقفال مضيق "تيران" الذي يفصل خليج العقبة عن البحر الأحمر في 22 أيار/مايو1967 - رغبةً منه دائماً بالعودة إلى الوضعية التي سبقت أزمة السويس في 1956. و كان الزعيم المصري جاهزاً للمخاطرة بنشوب حرب، واعتقد بأن قواته تمتلك وسائل مجابهة العدو الصهيوني إذا ما بادر إلى الهجوم. حتى أن بعض القيادات العسكرية المصرية خططت ا لعمليةٍ في "النقب" بهدف إقامة الاتصال مع الأردن، لكن عبد الناصر رفضها. إذ أنّه علانيةً كان يضع على المستوى نفسه كلٌ من إسرائيل والامبريالية و"الرجعية" (النظامان السعودي والأردني، وشاه إيران).
لقد أساء الزعيم عبد الناصر تقدير القوة العسكريةلإسرائيل : فبرأيه، كانت إسرائيل لا تستطيع الهجوم إلا إذا توفّرت لها مساعدة خارجية، كما أنّها لا تستطيع، من جهة أخرى، المحاربة على جبهتين في آن معاً. وقد اعتقدَ، والحالة هذه، أن ليس هناك قوة أوروبية يمكن أن توفّر لها هذه المساعدة، ولا حتّى الولايات المتحدة المتورطة في حرب فيتنام. أما مصر فتملك الأدوات لتحقيق طموحاتها، أي الردع الكافي لثنيّ أي اعتداء. ولم يفهم زعيمها بأن إسرائيل لا تحتاج إلا إلى دعمٍ سياسي (وليس مشاركة عسكرية) من الولايات المتحدة وبريطانيا(2).
في الأيام الأولى من حزيران/يونيو1967 شرح وزير الخارجية الأميركي دان راسك موقف إدارته، في مذكّرة برقية إلى السفارات الأمريكية في العالم العربي بتاريخ 3 حزيران/يونيو، قائلا: لم يعد هناك من حلّ منطقي حيال عقلية "الحرب المقدسة" لدى العرب وما يعادلها لدى الإسرائيليين من "عقلية نهاية العالم". لم يعد باستطاعة الولايات المتحدة تشجيع إسرائيل على ضبط النفس في ما تعتبره هذه الأخيرة دفاعاً عن مصالحها الحيوية. العرب كما الإسرائيليون واثقون من قدرة السلاح على الحسم. إذاً هناك من ارتكب خطأ جسيماً في الحسابات.
وفي 4 حزيران/يونيو، تناول والتر روستو، مستشار الرئيس الأمريكي، مآل الأمور في مذكرة دبلوماسية؛ فاستخدم كل التحفّظات البيانية الضرورية لجعل الحرب والانتصار الإسرائيلي مجرد فرضيات. وشرح أنّ العرب المعتدلين، وهذا يعني جميع العرب الذين يخشون توسع عبد الناصر، يفضّلون رؤيته مهزوماً على يدّ إسرائيل وليس على يدّ قوى خارجية. عندها ستفتح احتمالات جديدة: سيسود الاعتدال في الشرق الأوسط بحيث تُركّز الدول على التنمية الاقتصادية والتعاون الإقليمي. إضافة إلى ذلك، إذا حُلّت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، سيتم قبول إسرائيل كجزء من المنطقة. وإننا حيال مرحلة تحولات تاريخية في المنطقة. هكذا، لم تعد إسرائيل بحاجة للانتظار، إذ أنها تلقّت جميع التطمينات الضرورية من واشنطن. واتخذت الحكومة القرار النهائي في 4 حزيران/يونيو (3)1967.
في فرنسا أعلن الجنرال ديغول أمام مجلس الوزراء في 2 حزيران/يونيو 1967: "إن الدولة التي ستكون البادئة في استخدام السلاح لن تلقى تأييداً ولا دعماً من فرنسا". وفي خطوة منطقية، أعلن مع انفجار الحرب حظراً على إمداد أطراف النزاع بالسلاح. وبعد أشهر، وخلال مؤتمر صحافي - لم تُحفظ منه سوى جملة مثيرة للجدل عرّف فيها اليهود بأنهم "شعب واثق من نفسه ومتسلّط" - أضاف أن إسرائيل "تنظّم الاحتلال في الأراضي التي غزتها، وهذا ما سيؤدي إلى الظلم والقمع والنفي، وحين ستلقى مقاومة ستسميها إرهاباً ".
ومع مرور الوقت، أصبح هذا التحليل أقرب إلى النبوءة، مع أنّه كان له وقع الصدمة في حينه. حتّى قالت مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" في عنوانها بتاريخ 7 حزيران/يونيو: "لماذا تخلّى ديغول عن إسرائيل"، موضحة: "ليس لفرنسا الديغولية أصدقاء بل لديها فقط مصالح". صحيح أن خيار الجنرال كان بمنزلة قطيعة مع عقودٍ من الدعم غير المشروط لزعماء إسرائيل الذين سمحت لهم فرنسا بالتزوّد بالقنبلة النووية ومن بعدها الهيدروجينية. وقد اصطدم ديغول لدى البعض بشعور الذنب - المشروع - الذي خلّفته مشاركة حكومة فيشي في حملة الإبادة على اليهود؛ في حين خرّب لدى آخرين فرحة الثأر من "العرب" الذي وفّرته إسرائيل لمن كان الحنين إلى الجزائر الفرنسية يسكنهم(4).
ويجب انتظار اجتياح لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، ومن بعدها انتفاضة الحجارة ابتداء من 1987، كي يتخذ الفرنسيون مسافة من إسرائيل ويدعون إلى قيام دولة فلسطينية مستقلّة مجاورة تكون عاصمتها القدس الشرقية.
ولا يزال العالم العربي يلملم الشظايا المتناثرة لتلك الهزيمة المدوية.. كما أن فشل شعار الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي يقول ب "إزالة آثار العدوان" بعد الهزيمة يعود إلى عدة أسباب أهمها وأبرزها عدم قيام القادة العرب بإجراء تحقيق دقيق يحدد أسباب الهزيمة ومجرياتها ومن المسؤول عنها، فبقيت هذه الهزيمة من دون أسباب ولم تؤخذ العبر منها كما تفعل إسرائيل الآن في هزيمتها أمام المقاومة اللبنانية الباسلة التي تعقد فيها لجان التحقيق وتقدم التقارير لمعرفة أسباب هزيمتها واتخاذ العبر في المرحلة القادمة.
حين نتذكر حزيران /يونيو 1967 نتذكر أمرين متلازمين :
أولهما هزيمة " المشروع القومي العربي " بشقيه الناصري و البعثي ، و هي هزيمة تاريخية عادلة . والواقع أن " المشروع القومي العربي" كان يعاني من تأخر الوعي الإيديولوجي السياسي للأنظمة العربية التي رفعت لواء الحركة القومية العربية في مصر والمشرق العربي . إذ إن هذا التأخر التاريخي كان عاملا حاسما في استمرار الوعي المحافظ الامتثالي و التقليدي الذي يرفض تجسيد القطيعة المنهجية و المعرفية مع كل نزعة ماضوية وتقليدية في تطور مستقبل المسألة القومية العربية على أسس ديمقراطية ،عقب الهزيمة العربية أمام الإمبريالية الغربية و الكيان الصهيوني . علما أنه من الناحية السياسية و التاريخية ، كان العالم العربي من محيطه على خليجه منجذبا بحماسة عاطفية لأهداف الحركة القومية العربية في التحرر والاستقلال و الوحدة. و كانت مصر الناصرية في مرحلة الستينيات من القرن الماضي مركزا إقليميا طليعيا من الناحيتين السياسية و التاريخية، و مرجعية قومية موثوق بها وقادرة على تفعيل الحيوية الشعبية الكامنة، إذ حولت هزيمة حرب حزيران التلقف الطوعي، الذي ارتآه الرئيس عبد الناصر تعاطفا دافئا مع رغبة في المشاركة في التعدد وتصحيح الثغر التي من خلالها حصل النزف ومهد لمراجعات تبلورت في الصمود وحرب الاستنزاف
لكن الثقافة السياسية السائدة بعد حزيران 1967 بقيت إلى حد كبير مدمنة عدم المساءلة، وترفض عملية التحديث في البنية الفكرية و الثقافية للدولة العربية المعاصرة، ذلك أن كل عملية تحررية ثورية حديثة تقتضي بلورة فكرية حديثة . فالتأكيد على الحداثة الفكرية ، هي بمنزلة التأكيد على جذرية البرنامج السياسي ، و بالتالي راديكالية العملية الثورية ذاتها في ظل عالم عربي متأخر. واستمر النقد للبنية الفكرية ، و بالتالي " للمشروع القومي العربي" مشبوها بكونه معارضة يسارية أو تقدمية أو وطنية راديكالية. وحتى يومنا هذا لا تزال عملية نقد الذات حتى من موقع الالتزام مدخلا لدى معظم الانظمة العربية إلى التشكيك وبالتالي اعتبار النقد من موقع الالتزام بالمشروع القومي العربي نوعا من التربص.
و إذا كانت كلمة اليمين مثل كلمة اليسار ، وكلمة الرجعية مثل كلمة التقدمية ، متساوية لغويا في دلالتها المعرفية و الفكرية ، إلا أن التناقضات والتعارضات فيما بينها ، و في داخلها هي تناقضات و تعارضات للواقع ، لأن كلمة اليمين ليست يمينا ولا كلمة اليسار يسارا . لذا كان يجب التمييز بين حكم القيمة الإيديولوجية و حكم الواقع ، الذي يقود بالضرورة إلى التمييز بين الفكر و الإيديولوجيا . لذا عندما نتكلم عن الهزيمة ، لا نطلق موقفا إيديولوجيا دوغمائيا عليها ضمن التصنيفات الإيديولوجية التي سادت الساحة العربية و العالمية ، إنما نحلل ماهية بنية وأفكارالدول التي وصلت فيها أحزاب قومية رفعت راية "المشروع القومي العربي" لكنها أخفقت في تحقيق أي هدف من أهدافه. وهاهو العالم العربي بدوله الإثنين و العشرين ، في ظل غياب النقد الحديث ، يعاني من التفكك، و التشرذم ، و فقدان البوصلة التاريخية، ويفتقد إلى مرجعية تاريخانية قومية عربية متواصلة وموثوق بها.
ثاينهما: صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 لمعالجة آثار الهزيمة ،والذي تضمن ما اعتبر "مبادئ حل سلمي" للصراع العربي- وبعد انتصار العام 1967، قال الجنرال موشيه دايان، أبرز مسؤول سياسي في تلك الحقبة، هذه الجملة المشهورة: "نترقّب اتصالاً هاتفياً من العرب". كان يريد أن يحمل على الاعتقاد بأنّه بعد هذا الاتصال، ستنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلّة - من سيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربية والجولان- مقابل اتفاقيات سلام مع العالم العربي. لكن المؤرّخ طوم سيغيف كشف في كتابه 1967 (غير مُترجَم إلى الفرنسية Tom Segev, 1967, Denoel, Paris, 2007)، بأنّ تلك لم تكن في الواقع نيّة الحكومة الإسرائيلية. مع أنه جرى النظر إلى موقف إسرائيل على هذا النحو، سواء في العالم أم في الداخل.
أنه ينتظر اتصالات الدول العربية معلنة الاستسلام.
فما الذي حدث، منذ يونيو و حتى الآن ؟
على العرب أن يعترفوا بخطورة المشروع الصهيوني في المنطقة وأهدافه التي تتكشف كل يوم من تفكيك للمنطقة وعزلها وتجزئتها. و منذ هزيمة 1967، انكفأت الدول العربية كل منها على ذاته، وظهرت تيارات انعزالية تسيطر على تفكيرها، بحيث التفتت كل دولة لذاتها، وساهم في ذلك ما يسمى بالعولمة التي ترمي في مصالح المخطط الأمريكي الصهيوني ، أبرزها المصالحة مع الكيان الصهيوني ، بحيث تحول الأمر الى أن بعض الدول أصبحت تابعة لإسرائيل.
لقد انتصر المشروع الصهيوني في حرب حزيران 1967، ونجح في إحداث الفرقة بين العرب بحيث يتصور بعضهم أن البعض الآخر يسرق ثروته. وباتت مفردات " النكسة" تعني الهزيمة في وجه إسرائيل، لكن أيضاً - وخصوصاً- نهاية قاسية للمشروع القومي العربي بإقامة دولة عربية تقدّمية قوميّة وحديثة كان ينادي بها جمال عبد الناصر (1918-1970) الذي تسلم الحكم في مصر في العام 1952، مع الضبّاط الأحرار، وأصبح الداعي إلى الوحدة العربيّة. وكان لحزب البعث، الذي أُسّس في العام 1947 تحت شعار "وحدة، حرية، اشتراكية"، نفوذ في صفوف العسكريّين وأوساط الطبقات الوسطى، إذ تمكّن هذا الحزب الذي يتمتّع ب"فروع" تابعة له في كافة الدول العربية، من الاستئثار بالحكم في سوريا والعراق في مرحلة الستينيات. غير أنّ العلاقات السيئة والخلافات بين دمشق وبغداد ، و لا سيما داخل الحركة القومية العربية ستحول دون أيّ تحقيق لوحدة عربيّة.
وقد بلغ هذا المشروع ذروته مع إعلان قيام الجمهورية العربية المتحّدة بين مصر وسوريا (1958-1961). فخلال نحو عقديْن من الزمن، بين العاميْن 1950 و1967، أمل العرب في الحصول على فرصة ثانية لل"تعويض" عن "النكبة" الأساسية في خسارة فلسطين بين العاميْن 1948-1949. ومع العام 1967، أصبح وجود الدولة العبريّة حقيقة لا رجوع عنها، في حين كان يتّضح في إسرائيل الخطاب حول اللاّرجوع عن احتلال الأراضي، وهكذا تغيّرت معالم اللعبة السياسيّة في المنطقة (5).
كما أن المشروع الصهيوني انتصر أيضا في حرب أكتوبر ،1973 . و كان الصراع دائرا بين مشروعين متناقضين، فإسرائيل ترى أنها دولة معترف بها من هيئة الأمم المتحدة، بينما يعتبر المشروع القومي العربي أن إسرائيل دولة دخيلة ولا يمكن الاعتراف بها .وهو التناقض الذي أدى الى حروب ومعارك متتالية ، انتهت باعتراف دول عربية بوجود اسرائيل، وبالتالي قد انتصر المشروع الصهيوني ، الذي يستوجب مقاومته من قبل الشعوب العربية و الإسلامية بروح من الصمود في وجهه ولا بديل أمامها الا بالالتفاف حول المقاومة.
و كانت مصر عبد الناصر والشعوب العربية تجاوزت هزيمة يونيو(حزيران) من خلال حرب الاستنزاف ، وسطوع نجم الثورة الفلسطينية المعاصرة في فضاء السياسة العربية ، التي أكدت على أن قضية فلسطين هي قضية عربية و إسلامية بامتياز ، فضلا عن أنها قضية كونية، و أن أن عدو الأمة هو الكيان الصهيوني ، ما بقي مغتصباً لأراض عربية وينتهك حقوق العرب في فلسطين ولبنان وسوريا. غير أن مبادرة السلام التي سبقها لقاء السادات بكسينجر في أسوان في 7 ديسمبر 1973 أعطت وجها آخر لقضية الصراع مع الكيان الصهيوني، بحيث باتت الدبلوماسية هي السلاح الوحيد في مواجهة أي خلاف أو صراع في المناطق العربية الساخنة، وهو ما أضعف القدرة العربية على تجاوز روح الهزيمة.
لقد تراجع " المشروع القومي العربي" لمصلحة قوى التسوية، على الرغم من أن الناصرية كظاهرة تعتبر أول محاولة فعالة و جدية للتعبير عن حركة النهضة الثانية للأمة العربية، و أول حركة شعبية تاريخية عريضة على صعيد العالم العربي، استنهضها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لمقاومة الهيمنة الامبريالية الغربية و الصهيونية من خلال مقاومة الأحلاف العسكرية تارة، و الدعوة إلى الحياد الايجابي تارة أخرى، و أخيرا البحث عن هوية قومية ديناميكية و اجتماعية تقوم على تآزر الطبقات الاجتماعية لبعضها البعض، وتخفيف حدة الظلم الاجتماعي.
و احتلت قضية فلسطين موقعا مهما في الحركة الناصرية، إذ ربط عبد الناصر بين محاربة "إسرائيل "ومحاربة القوى الامبريالية الغربية كلها، لدى الشعب العربي، لو لا الروابط الواقعية، الضرورية، الخفية و الظاهرة التي تشدها إلى قضية الأمة العربية، قضية وجودها أولا، و من ثم قضية تحريرها و تقدمها ووحدتها، الروابط الواقعية الضرورية التي تشد الجزء إلى الكل، و الخاص إلى العام ثانيا. فمنذ "حرب الإنقاذ" عام 1948، إلى حصار بيروت 1982، مرورا بالعدوان الثلاثي على مصر1956، وهزيمة حرب 1967، و حرب تشرين ، و احتلال العراق 2003، لم تواجه الأمة العربية اختبارا شاملا، و كليا لتوابعها، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة سوى في هذا المجال ، مجال قضية فلسطين.
و بدأ مع تراجع المدّ القومي، مدّ المقاومة الفلسطينية خلال العقود الأربعة الماضية ، في البداية كانت هذه المقاومة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، عندما كانت هذه الأخيرة مؤمنة بنهج الكفاح المسلح طريقا لتحرير فلسطين ، ثم بقيادة الحركة الإسلامية الفلسطينية، التي انتزعت مشعل القيادة من م.ت.ف بعد أن أصبح رجحان خط التسوية الذي بات الخط الرسمي للسياسة العربية و للعديد من القوى السياسية العربية المعارضة، و حتى لمعظم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي تخلت عن شعار التحرير الشامل ، لتتبنى الحل المرحلي ضمن إطار التسوية عامة ، و ضمن إطار اتفاقيات أوسلو المتمخضة عن تلك التسوية، وفقا لمخطط السلام الأميركي – الصهيوني .
لقد طبعت هزيمة الجيوش المصرية والسورية والأردنية في مواجهة إسرائيل الهزيمة السياسية لجيلٍ راهن على التنمية والوحدة العربية والاشتراكية. ففقدت المجتمعات نقاط ارتكازها، وتحوّلت نحو الإسلام ؛ وهكذا شاهدنا نشوء الحركات الإسلامية التي ازدادت قوّتها بقدر ما برهنت الأنظمة العربية عن عجزها وعن تسلّطها، دون هدف آخر سوى البقاء في السلطة.
هذا الذي يبرز في هزيمة حزيران، لكن هذا لا يبرز وحده، فهناك بالمقابل ظواهر أخرى يجب أن نراها. لقد خلقت الهزيمة دلالات مهمة أبرزها اعتراف الرئيس جمال عبد الناصر بالهزيمة وتقديمه استقالته من الحكم، والتي عدل عنها وقدم نقدا ذاتيا ومراجعة شاملة لمجمل الأخطاء والسلبيات، وأجرى على خلفيتها تغييرات شاملة في أجهزة الدولة، ولولا تلك المراجعة النقدية لما كانت فكرة المقاومة وحرب الاستنزاف وانتصار أكتوبر وتوهج المقاومة الفلسطينية.
لقد تطوّرت إسرائيل خلال أربعين عاماً من الكيبوتزات المشاعية إلى اقتصاد رأسمالي معولم، ومن مجتمع نوع من المساواة إلى أكثر المجتمعات الغربية انعداماً لهذه المساواة. انطلاقاً من حرب الأيام الستة، اعتُبرت إسرائيل قوّة عسكرية إقليميّة عُظمى، بل حتى دوليّة. قد غيّرت الحرب على نحو مذهل اقتصاد إسرائيل الذي ازدهر بفعل انتهاء الركود وتراجع نسبة البطالة بقوّة. ثم بعد أربعين عاماً، أصبحت إسرائيل دولة أخرى. ففي حين كان الناتج المحلّي الإجمالي للفرد الواحد، في العام 1967، يصل بصعوبة إلى 1500 دولار، وصل إلى ذروته في العام 2006 ببلوغه 24000 دولار (17700 يورو)، وهو ما رفع إسرائيل إلى المرتبة الثالثة والعشرين عالمياً في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول التنمية البشرية للعام 2005. إضافة إلى ذلك، استقرّ في غضون أربعة عقود أكثر من مليون ونصف يهوديّ في إسرائيل، فارتفع مجموع عدد السكان اليهود من 2.4 ملايين إلى 5,5 ملايين نسمة.
بيد أن الانتصار الساحق الذي حقّقه الجيش الإسرائيلي، في مواجهة الجيوش الثلاثة الكبرى في العالم العربي - جيوش مصر والأردن وسوريا - في حرب 1967، لم يُطمئن الإسرائيليّين ويمنحهم شعوراً بالأمان. فإسرائيل ليست على الإطلاق مكاناً آمناً، ومنذ العام 1967 شهدت ست حروبٍ جديدة لم تكن في صالح إسرائيل.. : حرب الاستنزاف على طول قناة السويس وجبهة الجولان (1986-1970)، حرب الغفران (1973)، الانتفاضتان الفلسطينيتان (1987-1993 و 2000-2005) وحربا لبنان (1982 و2006). خمسة آلاف إسرائيليّ وقرابة الخمسين ألف عربيّ - مصريّين، سوريّين، لبنانيّين وطبعاً فلسطينيّين - لقوا مصرعهم فيها. باختصار، إنّ إسرائيل لم تُنهِ بعد اليوم السابع من حرب الستة أيام.
الصعوبة لإسرائيل لا تقتصر فقط على أنّ الصراع ما زال مستمرّّاً، لكن بألاّ يخرج الجيش منه منتصراً. فقد أشار الجنرال المُتقاعد دوي تاماري، الذي أصبح مؤرِّخاً، بعيد أحداث لبنان في صيف 2006، بأنّ حرب ال1967 كانت آخر انتصار لا جدال فيه يحقّقه هذا الجيش. فهو يعتبر بأنّ المواجهات اللاحقة كافة انتهت بالانسحاب، إن لم يكن بالهزيمة. وفي كلّ مرة، كانت تل أبيب تضطرّ إلى القيام بتنازلات كبيرة. فقد انتهت حرب العام 1973 بالانسحاب الكامل من سيناء، وفق اتّفاقيات السلام التي جرى التوقيع عليها مع مصر في العام 1979؛ وقد أدّت الانتفاضة الأولى إلى اتفاقيات أوسلو في العام 1993؛ وانتهى اجتياح لبنان في العام 1982 بالانسحاب غير المشروط في العام 2000؛ أمّا الانتفاضة الثانية، فقد أدّت إلى تفكيك المستوطنات في غزّة، منذ حوالي السنتيْن.
ماذا عن حرب تموز 2006في لبنان؟ يقول الصحافي الإسرائيلي ميرون رابورور الذي يعمل في جريدة هاآرتس اليومية، تلّ أبيب، إذا كانت الطبقة السياسية قد هتفت لفترة بأنّها انتصرت، فهنالك 20 في المئة من الإسرائيليّين فقط يعتبرون بأنهم انتصروا فيها، وفق دراسة أجرتها جريدة هآرتس قبل أسبوع من انتهاء الحرب. هذه الصعوبة في تحقيق انتصار واضح تفسّر دون شك لماذا اعترف منذ مدة أحد المحنّكين في السياسة الإسرائيلية - شرط عدم البوح باسمه - بأنه غير متأكّد أنّ إسرائيل ستبقى في الوجود بعد عشرين عاماً. إذاً بدل التخفيف من مشاعر الخوف، كلّ ما فعلته هذه الأربعون سنة من الاحتلال كان تغذيتها.
ولعل أبرزتجليات جدلية الهزيمة في علم 1967 ظهور المقاومة اللبنانية التي استطاعت أن تحرر جنوب لبنان بقوة السلاح في 25 مايو عام 2000. ثم هناك حرب يوليو/ تموز 2006 التي مثلت فصلاً مهماً من فصول نهاية "إسرائيل الكبرى "وتحطيم جيشها وقوتها الوهمية. فهذه الحرب كبدت دولة الاحتلال خسائر كبيرة لم تَخسرها على مدار تاريخها الحربي. ولا تزال لعنة حرب لبنان تطارد غالبية السياسيين والعسكريين في "إسرائيل"الذين سيدفعون ضريبة باهظة لفترة طويلة، لأن صمود المقاومة اللبنانية في وجه أسطورة الجيش الذي لا يقهر خلق أزمة وجودية "لإسرائيل "بسبب الإخفاق في تحقيق جيش العدو الصهيوني جملة من الأهداف الاستراتيجية للدولة "الإسرائيلية"، وهذا هو الجزء المهم في مضمون التقرير المرحلي للجنة "فينوغراد" الذي صدر في الثلاثين من إبريل/نيسان الماضي.
هذه القراءة تقودنا الى الاستنتاج أن لدى شعوب الأمة العربية حيوية ملهمة ولكن ليست لديها مرجعية وطنية أو قومية . ورغم ذلك تمكنت هذه الحيوية من أن تحقق انجازات متقطعة مثل إصرار مصر على الصمود بعد الهزيمة، و"معركة الكرامة" أوائل 1968 ،ثم انتفاضاتي شعب فلسطين الأولى في نهاية عام 1987، و الثانية في نهاية سبتمبر 2000، ضد الاحتلال والتهويد وبروز مقاومة الاحتلال في كل من فلسطين و لبنان والعراق التي استطاعت أن تهز المواقع الأميركية – الصهيونية ، عبر بث روحية تحريرية جديدة في مقاومة الولايات المتحدة الأميركية و فالأجيال التي ترعرعت بعد العام 1967 والتي تكوّن اليوم الغالبيّة العظمى من الشعوب، تدرس تاريخاً مُشبعاً بالخطاب الديني. ويثير هذا الخطاب أيضاً شعوراً بالذنب لدى كلّ من ينحرف عن التقوى ويضلّ الطريق القويم.
في ظل هزيمة الحركة القومية العربية و تقهقر الحركة الاشتراكية على اختلاف تياراتها، وتعمق الطلاق التاريخي بين المجتمعات العربية والأنظمة القائمة، برزت إلى الواجهة السياسية و النضالية الحركات الإسلامية ، التي قدمت توجهين أساسيين، أحدهما إخواني شرعي، والآخر جهادي"ثوريّ".
لقد ظهر تنظيم "الجماعة الإسلامية" التي ترك أعضاؤها حركة الأخوان المسلمين وقاموا بتوسيع تحرّكاتهم في ثلاث وجهات (6)بدؤوا أولاً باجتذاب الشباب، إذ تمركزوا في الجامعات، ودخلوا أكثر المدارس الثانويّة امتيازاً، وجندّوا أبناء العائلات البورجوازيّة الكبيرة في دمشق وعمّان والقاهرة والإسكندرية والخرطوم. فالحركة الإسلامية الأصوليّة، التي تعدّ حركة ثقافية وسياسية بالدرجة الأولى، لم تكن يوماً وقفاً على الطبقات الفقيرة. فقادتُها، على غرار قادة "الجماعة" منذ العام 1967، وبعدها قادة القاعدة، هم مثقّفون من الطبقة البورجوازية المتعلّمة والميسورة.
و بعد الهزيمة هتخلّى الأخوان المسلمون عن أفكار سيّد قطب (7)، وعدلوا عن العنف واعتمدوا استراتيجيّة السيطرة التدريجيّة على المجتمع، عن طريق التوسّع الزاحف لعقيدتهم.غير أن الظاهرة الجهادية المنشقة عن الجماعة ، أصبحت تدعو إلى الجهاد في مواجهة قوى الاحتلال (إسرائيل أو الوجود العسكري الأجنبي)- الحركات الجهادية في فلسطين ، وحزب الله في لبنان الخارج من عباءة حزب الدعوة- هي تتميز بوضوح عن التيارات السلفية التكفيرية التي تنادي بتصعيد الحرب ضدّ الكفّار، في الداخل كما في الخارج، انتصاراً لدين لله.
وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر ، انتشرت في إسرائيل انتشارا كبيرا القناعة الإيديولوجية التالية ، أن الدولة الصهيونية أصبحت تمثل "خطّ تماس دامٍ" بين الغرب والشرق، بين الحضارة "اليهوديّة المسيحية" - وهذا اختراع غريب إذا ما اطّلعنا على تاريخ الديانتيْن... - والحضارة الإسلاميّة . و لقد اعتبرت التيارات الأصولية المسيحية و الصهيونية أن إسرائيل هي "موقع أماميّ للعالم الحرّ . وكانت إسرائيل قد اكتسبت هذا المكان المميّز في الغرب، فذلك لأنّ الدولة الصهيونية تُعتبَر لإرادة إلهية. وقد حوّل ذلك الصراعَ العربي الإسرائيلي، الذي كان في البدء ميدانياً، وإذاً سياسياً، إلى مواجهة ثقافية ودينية بين الغرب و الإسلام .
-------------------------------------------------------
(1) –تم توقيع هدنة بين إسرائيل و سوريا في 20 تموز/يوليو 1949، وحددت منطقتين منزعتي السلاح بين الدولتين. وباقت السيادة على هاتين المنطقتين معلّقة.
(2) –هنري لورنس، أخطاء تكتيكية، وصدامات بين الاستراتيجيات ، بحث منشور ضمن ملف عن نكسة 1967، في صحيفة لوموند ديبلوماتيك الشهرية، حزيران 2007.
(3) – المرجع السابق عينه.
(4) – دومينيك فيدال و ألكسي برج ،حتى ديغول كان معزولا.. ، بحث منشور ضمن ملف عن نكسة 1967، في صحيفة لوموند ديبلوماتيك الشهرية، حزيران 2007.
(5) – بسمة قضماتي، جيل عربي موسوم بصدمة الهزيمة، بحث منشور ضمن ملف عن نكسة 1967، في صحيفة لوموند ديبلوماتيك الشهرية، حزيران 2007.
(6) –صفحة مجهولة في طريق الحركة الإسلامية المعاصرة، من النكسة إلى المشنقة، شهادة لطلال الأنصاري، بقلم عبد الله سرور، المحروسة، القاهرة، 2006
(7) – عضو قيادي في جماعة الإخوان المسلمين ، و منظر للعنف كاستراتيجية سياسية، استوحت منه الحركات الجهادية . أعدم بأمر من عبد الناصر في العام 1966.
-أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.