أحبّ في الأدب السيرة ،ورائحة المكان فهذا اللّون من الكتابة لا يجيده إلاّ من كان صادقا وشفّافا وصافيا مثل نهر في جبل مهجور. فأدعياء الكتابة ومرضى الأوهام والنرجسية ومحترفو البلاغة وصياغة الكلمات التي بلا معنى ،فمنذ أيّام قرأت كتابا لا أريد أن أسميّه رواية ولا قصّة طويلة فهو كتاب لا يمكن تصنيفه في إطار محدّد لأنّه جمع بين الشّعر والرواية والقصّة والتاريخ والسيرة. هذا الكتاب الذي وصلني منذ أسابيع لعبد الرزّاق المسعودي بعنوان «أجمل الذنوب» وقد اختار أن يصفه بأنّه «سيرة مكان». كتب عبد الرزّاق المسعودي سيرة كليّة الآداب بمنّوبة من خلال جيل التسعينات هذا الجيل الذي أصبحت له بصمات واضحة في المشهد الأدبي في تونس من خلال تنويعه في أشكال الكتابة وتجاوزه للتجارب السّابقة من خلال الإصرار على كتابة قصيدة النّثر ففي هذا الكتاب يستحضر عبدالرزّاق المسعودي سيرة جيله من الطلبة في كليّة الأداب بمنوبة هذه الكلية الشّاهدة على تحوّلات المشهد السياسي والنقابي في تونس منذ إفتتاحها في مطلع الثمانينات وقد مرّت بها أجيال من النخبة التونسية ومن النقابيين والسياسيين. كتب المسعودي ذاكرته المنهكة بأسلوب جمع بين السّرد وبين الشّعر فحكايات «يوسف» الذي يهتف باسمه كلّما إنقطع التيّار الكهربائي في المبيت الجامعي بمنّوبة وحزن أواخر السنة وقصص الحب العاصفة والفاشلة وأحلام الطالبات الريفيات التي التهمتها المدينة الجائعة لالتهام البسطاء وبطالة الخريجين والتجارة الموازية وأعراس القرى النائمة تحت الجبال وأحلام الشباب بالهجرة كل هذا العالم من الألم والحلم والصمت والصراخ صاغه المسعودي في نصّ رائع أقرب الى الشّعر منه الى الرواية. جمع المسعودي بأسلوب سردي مكثّف بين سيرته وسيرة المكان كليّة الآداب بمنوبة وسيرة جيله معرّجا على المؤسسة الجامعية التي كثيرا ما همّشت بعض الأساتذة الذين اختاروا أسلوبا مختلفا في التدريس والكتابة ومن بينهم محمد لطفي اليوسفي الذي يعدّ مرجعا لعدد كبير من طلبة التسعينات خاصة. هذا الكتاب أمتعني شخصيا ليس لصلتي بكليّة الآداب في أواخر الثمانينات بل لروحه الأدبية الخالصة فمنذ فترة طويلة لم أقرأ نصّا تونسيا بهذه الروح الشّفّافة وأعتقد أن هذا الكتاب الأوّل لعبد الرزّاق المسعودي يبشّر بكاتب روائي سيكون له شأن في المشهد الأدبي التونسي وربّما العربي. «أجمل الذنوب»... كتابة مختلفة لكاتب مختلف.