النفاق... لماذا؟ ما الذي يجعل الانسان ينافق؟ من هو الشخص الذي يدفعني لاحساس أنه أفضل مني حتى أقدم له الوجه الذي يرضيه، وليس وجهي، الفكرة التي تعجبه وليست فكرتي؟ وعاطفة لا أشعر بها؟ ما الذي يستحق في هذه الحياة... أن أرضي غيري على حساب نفسي؟ وهل اذا نافقت أتحصل على أكثر مما أستحق؟ النفاق، هذه الرغبة الشديدة للانسان في أن يكون محمود السمعة بين العباد، أو حباً لحسن الذكر، أو مقدمة للوجاهة بين الناس، هل يعتقد الانسان أنه لو كشف عن باطنه لكان ذلك دافعاً لنكران الناس له، لذلك فانه يضطر دائماً إلى صنع اللطف واستعمال ما يعتقد أنها مجاملة؟ كنت منذ أيام مدعوة للعشاء عند أصدقاء ميسوري الحال، كان الحضور مجموعة مهمة من كل شرائح المجتمع،ساد جو من كلام المودة طول السهرة، مواضيع مختلفة تطغى عليها النرجسية، والكل يتبادل المدح والثناء بتداول كلما حكى أحدهم عن انتاجه أو أعماله أو نجاحاته، فالجميع يتمتع بقدرات ابداعية ونجاحات مادية، ثم أشرفت السهرة على نهاياتها وبدأ الناس بالانسحاب مع تصبح على خير حميمة ولا بد أن نلتقي، أنتظر هاتفك وباااااااي، يطبق الباب، وينهال الجميع على المغادر وجماعياً، طعنات تكشف عيوبه وخيبته وتفاهة انتاجه ومرابيحه المشبوه بها، وأعماله الوصولية، «كم حمدت ربي أنني لا أملك مالاً وأن انتاجي المكتوب متواضع لا يمكن أن يتهم بالوصولية» كان من الممكن أن أتغاضى عن النميمة فهي في مجتمعاتنا صدقة جارية، لكن لماذا كل ذاك النفاق المجاني؟هل نحن في مجتمع الصدق والحقيقة والصراحة فيه مرفوضة، وبالابتسامة والمداهنة، والكلمة المنافقة، والمجاملة الرنانة، نستطيع أن نمتلك أكثر الناس، هل فكرة «جامل ستكون محبوباً» هي السارية؟ عندما ننافق، هل نحن على وعي أننا نكذب لأننا نخشى قول الواقع، وأننا نكذب بكل طريقة ممكنة الا على أنفسنا، لكن النفس أحياناً تصاب بالصمم والعمى؟ هل ننافق بحثاً عن الاطراء والتفاخر واخفاء الذات؟ هل نحن على وعي بأننا بنفاقنا نكذب، نداهن؟ نتصنع؟ وكأن ثقتنا بأنفسنا غير موجودة، واحترامنا للآخر شبه معدوم؟وكأن النفاق يخشى تلابيب الصدق؟ كلمة نفاق باللغة العربية مأخوذة من «النافقاء» وهو المخرج المستور لجحر اليربوع، حيث أن لجحره مخرجين، مخرج ظاهر يسمى «القاصعاء» ومخرج آخر مستور بالتراب هو «النافقاء» يستخدمه في الحالات الطارئة للهرب من المهاجمين. فما أجمل اليربوع لا يهرب من الباب المستور الا عند الضرورة، عندما يهاجم من الخلف. أما الانسان فينافق من الواجهة ومن الخلف ومن كل الجهات، حتى كلمة نفاق الثقيلة على الأذن والنفس، استبدلها بكلمات جذابة: كالمجاملة، والتعامل الديبلوماسي، والمرونة، أغلفة براقة تستر عورة النفاق، وتبرر للناس التعامل معه، لكنها في ذات الوقت تحمل دلالات عدة عن مدى تفشي النفاق في تعاملاتنا، وتغلغله في مجتمعاتنا، فهذا موظف لا يكتفي بالسكوت عن الباطل بل لا يفتأ يزينه ويبحث له عن المسوغات تزلفاً منه ونفاقاً. وذاك صحفي يزور الحقيقة أو يشوه صورتها رغبة أو رهبة أو ارضاء. والكثير من الناس يقابل بعضهم بعضاً بالفرح والابتسام، حتى اذا أعطى كل واحد ظهره للآخر، كال له من الشتائم أنواعاً، ومن القبائح أصنافاً. مجاملات أو قل مصالح وسياسات غير أنها في حقيقة الأمر لا تخرج عن خلق النفاق، وتحكي صورة تدمي القلب عن تردي أخلاقنا، وهبوط علاقاتنا وتعاملاتنا الى درجة أصبح بها النفاق خلقا مقبولا، لا نستطيع انكاره أو الاعتذار عنه، فضلا عن رفضه وازالته من قاموسنا. ما أبشع أن يقابلك المرء باسطاً يديه لك، ثم يصافحك ويعانقك في بعض الأحيان وهو بداخله يحمل لك غيرة، أو يكن لك من الحقد والكراهية والضغينة ما يكفي لحرق فدادين من القمح. ويكمن خطر المنافق في كونه حبيبا قريبا لك من أمامك، يأخد منك مايستحق من خدمات، ويأتي من خلفك بطعنات لا تراها ولا تتخيلها فتكون حقاً طعنات مميتة. في الحديث الشريف: «لعن الله ذو الوجهين وذو اللسانين» وأيضاً «آية المنافق ثلاث : اذا حدث كذب، واذا وعد أخلف، واذا أؤتمن خان». ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: {ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار}. أصبح المجتمع بأكثر من ألف لون ومائة وجه، وأصبح أغلب الناس نسخا متكررة من هذا المجتمع المتلون وهذه الوجوه المنسوخة. لكن النفاق سد مسدود، من كان يظهر أمراً لا يصدقه، وباطناً لا يعلنه، فلا محالة من فلتات تظهر على تصرفه أو لسانه. ولا بد أن يعلم المنافق أنه مثلما ينافق هو الناس ... الناس تنافقه.