قال تعالى : {فلينظر الإنسان إلى طعامه}. هذه الاية الكريمة جاءت في اوائل النصف الثاني من سورة عبس، وهي سورة مكية، وعدد آياتها (42) بعد البسملة، ويدور محورها الرئيسي حول قيمة اسلامية كبرى مؤداها ان التفاضل بين الناس لايكون الا على اساس من تقواهم لله، بغض النظر عن انسابهم، وامكاناتهم المادية، ومستوياتهم الاجتماعيه، وجاههم، وسلطانهم، واعمارهم، والوانهم، واجناسهم، وهي قيمة اراد الله تعالى غرسها في قلوب وعقول المسلمين، ووضحها بواقعة حدثت مع رسول الله ص في مكةالمكرمة حين انشغل بدعوة نفر من زعماء قريش الى دين الله الخاتم، واعرض عن صحابي كفيف، من اوائل المسلمين، جاء يسأله في أمر من امور الدين، فانزل الله تعالى في مطلع هذه السورة المباركة عتابا لرسوله ونبيه الخاتم صلى الله عليه وسلم حتى يؤكد الحقيقة التي انزلها في مقام آخر من محكم كتابه بقوله عز من قائل: { چإن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13) ومن اجل اقرار هذه القيمة الاسلامية التي لايمكن للمجتمعات الانسانيه ان تنصلح بغيرها، انزل الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات هذا العتاب الشديد لأحب الخلق اليه، واقربهم الى رضوانه، لتبقى هذه القيمة العليا حاكمة للمجتمعات الانسانيه اذا ارادت ان تعيش حسب منهج الله، وان تحقق رسالتها في هذه الحياة. ولذلك حفظ هذا العتاب في كتابه الكريم الذي سيظل يتلى الى يوم الدين. تذكرة للناس بهذه القيمه الانسانيه التي يجب ان يلتزم بها المسلمون بصفة عامة في مجتمعاتهم، وبصفة اخص في طريق الدعوة الى الله. **جحود وتلمس السورة الكريمة جحود الانسان لخالقه سبحانه وتعالى وتذكره باصله ونشأته، وتهيئة الله تعالى له، وتيسير السبل امامه، كما تذكره بنهاية حياته الدنيوية بالموت والقبر، ثم اعادة بعثه ونشره ليلقى حسابه وجزاءه في الآخرة، وعلى الرغم من ذلك فانه لايتقيد باوامر الله ولايقوم بتنفيذها. وترد الايات على هذا الجحود الانساني باستعراض عدد من دلائل القدرة الالهيه المبدعة في خلق الانسان، واعداد طعامه وطعام انعامه، وتذكره بالاخرة واهوالها وشدائدها باستعراض عدد من مشاهدها، وتصوير انعكاس ذلك علي الخلائق فيها الذين سوف يتمايزون الى مؤمن مستبشر سعيد، وكافر شقي تعيس. وتبدأ السورة الكريمة بالاشارة الى واقعة الصحابي الجليل عبد الله عمرو بن قيس المعروف باسم ابن ام مكتوم في مكةالمكرمة قبل الهجرة، وكان الرجل مكفوف البصر، ولكنه كان مفتح البصيرة فبادر بقبول الاسلام دينا، وجاء في يوم من الايام الى رسول الله ص يساله في امر من امور الدين، والرسول منشغل في مناقشة عدد من زعماء قريش ودعوتهم الى دين الله الخاتم، لعل الله تعالى ان ينصر بهم هذا الدين الذي كانوا يقفون منه موقف المعاداة والصد، وفي هذه المعمعة كان ابن ام مكتوم يلح في توجيه اسئلته، والرسول صلى الله عليه وسلم يتمنى لو انتظر قليلا حتى يتمكن من الوصول الى قناعة مع هؤلاء النفر من رؤوس قريش، ولكن ابن ام مكتوم استمر في الحاحه بالسؤال، فعبس وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم وتولى عنه فانزل ربنا تبارك وتعالى وحيه بهذه السورة المباركة يعاتب فيها سيد المرسلين عتابا شديدا بخطاب الغائب اولا، ثم بتوجيه الخطاب اليه مباشرة والذي يقول فيه عز من قائل: {عبس وتولى ان جاءه الاعمي وما يدريك لعله يزكي او يذكر فتنفعه الذكرى اما من استغنى فانت له تصدى وما عليك الا يزكى واما من جاءك يسعى وهو يخشي فانت عنه تلهى كلا انها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعپپة مطهرة بايدي سفرة كرام بررة} (عبس 161). **عتاب إلهي وبعد نزول هذه الآيات كان رسول الله ص يكرم ابن ام مكتوم كلما رآه ومن ذلك الاكرام كان استخلافه على المدينةالمنورة مرتين، وقد كان من المهاجرين الاوائل اليها، واستشهد بالقادسيه (رضي الله تبارك وتعالى عنه وارضاه). كذلك يروى عن رسول الله ص انه ماعبس في وجه فقير قط بعد هذه الواقعة، ولا تصدى لغني قط، ويروي لنا سفيان الثوري (رضي الله عنه) ان الفقراء كانوا امراء في مجلسه عليه الصلاه والسلام. ومن الدروس المستفادة من هذه الواقعه الا يخص بالدعوة الى دين الله احد دون احد، فالله تعالى وحده هو الذي يعلم اين يكمن الخير، والدعوى الي دين الله الخاتم يجب ان تكون للناس كافة بغض النظر عن اعراقهم، وانسابهم، واجناسهم، واعمارهم، وامكاناتهم العلميه والتقنية والمادية، ومستوياتهم الاجتماعية، وغير ذلك من الفوارق الطبقية التي لايقرها الاسلام ولايرضاها ربنا تبارك وتعالى اساسا للتفضيل بين خلقه. ولقد كان في اعلان رسول الله ص لهذا العتاب الالهي الشديد لشخصه الكريم ابلغ الشهادات على صدق نبوته، ونبل رسالته، وكمال عبوديته لله الخالق، فلا يقوى علي ابراز مثل هذا العتاب الا نبي كريم، يعرف حقوق ربه عليه، وقدسية الوحي الذي يتنزل اليه بكلمات الله التامات المنزهة عن الحذف او الاضافة او غير ذلك من المداخلات البشرية.