أن تتحدث الى نعوم تشومسكي فمعنى ذلك أنك تحاور واحدا من أبرز عمالقة الفكر على مستوى العالم... وثالث أهم شخصية فكرية وثقافية على قيد الحياة في هذا القرن، مثلما جاء في آخر الاستفتاءات بالولاياتالمتحدة... فالرجل أحد أعمدة علم اللغة الحديث... وصاحب نظرية النحو التوليدي التي تعتبر احدى أهم النظريات في العصر الحديث... لكن تشومسكي اكتسب الشهرة الكبيرة التي يحظى بها اليوم على مستوى العالم ليس فقط بسبب أفكاره اللغوية الثورية ولكن أيضا بسبب وقوفه الى جانب قضايا الحق والعدل ومعاداته المستديمة للصهيونية والامبريالية حيث قدم أروع وأجرأ المواقف في مناهضة الصهيونية ومخططاتها الاستعمارية في المنطقة العربية حتى أبرز منظمة يهودية في أمريكا وصفته بأنه أشد مواطني الولاياتالمتحدة عداء لاسرائيل... البروفسور نعوم تشومسكي يفتح صدره ل«الشروق» ويجيب عن مجموعة من الأسئلة حول قضايا الساعة في هذا اللقاء الخاص... وما يلي هذا الحوار: بداية، ماهو موقفك من وثائق «ويكيليكس»... كيف تحكم على الوضع الراهن في العراق انطلاقا من هذه الوثائق، بعد مرور أكثر من سبع سنوات على احتلال هذا البلد؟ أعتقد أنها تفاصيل مهمة جدا من ناحية عدد الوثائق الذي يصل الى نحو 400 ألف وثيقة كاملة وأيضا وهذا هو الأهم والأخطر، من ناحية مضمون هذه الوثائق وما كشفته من حقائق مذهلة ومخجلة حول الوضع بالعراق وخاصة في ما يتعلق بعمليات التعذيب التي قامت بها الحكومة العراقية الحالية ضد معتقلين عراقيين وكذلك في ما يتعلق بالدور الايراني في العراق... فالمعلومات التي وثقها موقع ويكيليكس تستوجب في رأيي عدم السكوت ازاءها وتستدعي محاكمة المتورطين وجلبهم الى العدالة حتي لا تتكرر مثل هذه الفظاعات المقرفة... أما ما عدا هذين الجانبين أي الدور الايراني وتورط الحكومة العراقية، فلا أرى في الأمر أية مفاجأة حقيقية في ما جاء في وثائق ويكيليكس... بمعزل عن لغة «الوثائق» والأرقام أسألك الآن بلغة السياسة... كيف تفسر أزمة تشكيل الحكومة العراقية... من يعطلها... ثم لمصلحة من هذا الذي يحدث؟ الوضع في العراق هو في رأيي أزمة مركبة فالعراق تحول اليوم الى ساحة مفتوحة يتدخل فيها أمريكا وايران مثلما جاء في ويكيليكس وعدة أطراف اقليمية ودولية أخرى... وبالتالي فإن أزمة تشكيل الحكومة العراقية هي في تقديري الخاص جزء من أزمة أكبر وأشمل... هي أزمة عادية اذا ما نظرنا الى طبيعة الأوضاع والصراع القائم في العراق... لكن ذلك لا يقلل من خطورتها لأنها أيضا أزمة غريبة في ظاهرها... فأن يتعطل تشكيل الحكومة طوال هذه الفترة... أكثر من 100 يوم... فهذا أمر غريب وعجيب... يحدث لأول مرة في تاريخ الحكومات في العالم... لكن المؤسف في الأمر أن الشعب العراقي المسكين... الذي يعاني من الفقر والجوع وغياب الامن والاستقرار هو من يدفع ثمن هذه الأزمة... أعتقد اذن ان استمرار الوضع على حالته هذه لم يعد يحتمل... وأن الأمر يحتاج الى تحرك حازم وحاسم ينهي هذه الأزمة ويعيد الأمور الى مسارها الصحيح... أسألك الآن عن موضوع آخر لا يبدو هو الآخر في مساره الصحيح... أقصد الملف الفلسطيني... فكيف تحلل بروفسور الوضع الجاري على هذا الصعيد... وما طبيعة ما «يطبخ»؟ مسار السلام هذا صار له نحو 20 عاما... 20 عاما كاملة سمعنا خلالها حديثا كبيرا عن السلام... ورأينا فيها كل شيء القتل والدمار والحصار والاعتقال والمناورات لكننا في المقابل لم نر سلاما... بل وأكثر من ذلك أقول انه على مدى نحو 35 عاما كانت الولاياتالمتحدة منحازة بالكامل الى اسرائيل... فقد ساعدت واشنطن حليفها الأزلي اسرائيل في تعطيل التسوية وفي تجاهل تطبيق كل الاتفاقيات والقرارات الدولية وفي الوصول الى هذا الوضع المأساوي... ومادامت أمريكا تقف الى جانب اسرائيل وتساندها بالمال والسلاح فإن السلام سيظل مجرد عنوان براق ولن يتحقق أي شيء من الأحلام الفلسطينية ببناء دولة فلسطينية مثلما يطالبون بذلك... هذا كله سيبقى مجرد أوهام فقط لأن التغيير في موقف اسرائيل يبدأ من أمريكا... هل نفهم من كلامك أن ما يدور من حديث عن المفاوضات للاستهلاك فقط؟ القصة الرسمية بأن المفاوضات ستجري بلا شروط مسبقة مثلما يطالب بذلك الجانب الاسرائيلي... هي دعاية صرفة... لأن مثل هذا الشرط قاس بل انه في الحقيقة عقبة أساسية أمام الوصول الى تفاهم فلسطيني اسرائيلي لأنه يعني أن اسرائيل بإمكانها أن تواصل تطوير مشاريعها الاستيطانية والتمادي في سياساتها الأخرى غير الشرعية وفي مقدمتها ابقاء حصارها الجائر على قطاع غزة وذلك بمساعدة وتواطؤ أمريكيين... ومثل هذه السياسات لا أعتقد أنها يمكن أن تجلب السلام للشرق الأوسط بقدر ما أنها تحد من فرص تحقيقه وتعزز في المقابل من فرص الدمار والحروب... بعد أيام قليلة يمر عامان على انتخاب أوباما... ما هو تقييمك لسياسته... والى أي مدى نجح برأيك في الايفاء بوعوده وفي القطع مع سياسة سلفه جورج بوش الابن؟ أوباما يختلف في رأيي عن سلفه جورج بوش الابن.. هذا واضح في خطابات وسياسات أوباما... وهذا ما يميزه عن الرئيس الأمريكي السابق لكن المشكلة أن أوباما لم يتمتع بالدعم الذي تمتع به سلفه... أي أنه لم تعط له الصلاحيات التي أعطيت لبوش من طرف اللوبي الصهيوني المتحكم في صناعة القرار بأمريكا... كان بإمكانه (أوباما) أن يحصل على هذا الدعم لو أنه انتهج نفس السياسة لكن القيود التي وضعتها أمامه مجموعة الضغط في أمريكا أفشلت الى حد الآن معظم الوعود التي أطلقها وجعلت منه رجلا ضعيفا وعاجزا عن تحقيق أهدافه وحتى عن اصلاح الأخطاء والأزمات التي خلفها بوش والتي كانت من أبرزها الأزمة المالية التي لم تشهد أمريكا مثيلا لها منذ الثلاثينات... لكأنك تلمح في سياق حديثك الى الغياب العربي في العراق... لكن في الحقيقة العرب هم غائبون في ساحات عربية أخرى... فكيف تنظر الى دوافع هذا الغياب وتداعياته؟ نعم العرب للأسف لم يغيبوا عن العراق فقط بل انهم ابتعدوا عن معظم قضاياهم وبدل أن يفكروا في الاقتراب من بعضهم أكثر لمواجهة مشاكلهم فإنهم زادوا في الاقتراب من أمريكا أكثر رغم أن أمريكا هي المتسبب الرئيسي في مشاكلهم هذه... هذا في الحقيقة أمر مخجل والمشكل هنا ليس في اقترابهم من الادارة الأمريكية... فهم بإمكانهم اذا شاؤوا أن يوظفوا هذا التقارب في خدمة قضاياهم... لكن أصل المشكل أن العرب يخدمون أمريكا بلا مقابل...