بخطى أثقلتها السنون والمحن تقدم الرئيس العجوز الى المنصة، ليفتتح مناسبة تسليم الجائزتين السنويتين لمؤسسة جاك شيراك. الصوت يبدو متعبا كخطى صاحبه. لكن الرجل المحتفظ بكاريزميته العالية، لا يلبث ان يستعيد نبرته وبلاغته وفصاحته المعروفة، كأسد متعب ينتفض ويستجمع قواه المنصة، بمن عليها والقاعة بمن غصت بهم من المئات، والفائزين بالجائزتين، بدوا وكانهم يشكلون رسالة واحدة. المنصة التي تجمع اماما نيجيريا مسلما الى قس بروتستانتي افريقي، الى حامل جائزة نوبل للسلام هندي الى سيمون فيل، اقتصادي سابق من جماعة شيراك، والقاعة المحتشدة باعضاء مؤسسة جاك شيراك، ببعض اقطاب العهد الشيراكي، وبجمهور غفير من مختلف الاعمار، مع طغيان من تجاوزوا الخمسين. حشد يبدو غفيرا ويذكر بان هذا الرجل هو الذي حصل يوما على اعلى نسبة اصوات سجلها رئيس جمهورية فرنسي. دون ان يعطيه ذلك امكانية اختيار المرشح الذي خلفه عن حزبه. اما نحن، صديقتي وانا، فلا نستطيع ان نرى في قامته، من زاويتنا في القاعة الا الرئيس الذي سجل للتاريخ موقفا لا يمكن ان ينساه العرب والانسانية ضد احتلال العراق، بعد ان كان قد سجل، سيرا على الاقدام في شوارع القدس موقفا اخر رمزيا للحق. نعرف انه خرج عن سياقه عندما وصل الامر الى لبنان، ولا نعلم حتى الان ما اذا كانت صداقة رجل، تحول الى شهيد كافية لتبرير موقف من قضية، ام انها تحولات البراغماتية السياسية التي فرضها الفشل في صد الأمريكيين واسرائيل. في خطابه، لا كلام مباشر في السياسي. لكنه وهو يستهل بالحديث عن الفقيد محمد اركون، ودوره في الثقافة الاسلامية والحوار، يؤكد على الموقف المبدئي من قضية هي اهم ما يواجه البشرية اليوم: صراع او حوار الحضارات؟ موقف الحوار، احترام ثقافة الاخر وقبوله، الحفاظ على التعدديات والخصوصيات الثقافية، دور فرنسا في احتضان وتفعيل هذه المفاهيم، عبر المتوسط، عبر افريقيا، عبر القارات مع اسيا، هي ما كان يشكل دائما اساسا في السياسة الديغولية وفي الديغولية الجديدة مع شيراك. خيار الحوار هذا، هو اكثر ما تحتاجه اوروبا المعتدلة، الباحثة عن استقلاليتها، والمحتاجة الى الحفاظ على سلمها الاهلي وامنها الاجتماعي والسياسي، وهو ما تحتاجه فرنسا لكل هذه الاسباب، اضافة الى كون دورها كقوة عالمية لا ينبثق الا من هذا الدور، وليس من ديموغرافيا او جغرافيا او ثروات. فيما تحتاج الولاياتالمتحدة ومن يقابلها في الوجه الاخر من العملة الى موقف الصراع الذي حقق كل مصالح واشنطن لا في الدول الاسلامية، فحسب وانما في أوروبا أيضا. لذلك جاء اختيار الديبلوماسي العربي المسلم الاخضر الابراهيمي العامل على حل النزاعات في المنطقة العربية، للجائزة الاولى، مكملا لاختيار الديبلوماسي الفاتيكاني ماريو جيرو، تقديرا لعلمه من اجل حل النزاعات في افريقيا للجائزة الثانية. ورغم ان الرئيس لم يتحدث الا عن المياه والتعليم والزراعة والبيئة، الا انه لم ينس التوجه بتحية الى الرئيس البرازيلي لولا مع ما يعنيه لولا وأمريكا الجنوبية التي تشبهه. وعندما وقف القس والامام الافريقيين معا على المنصة ليلقيا كلمتهما، وتلاهما الهندي متحدثا عن السلام في آسيا، سألنا: ونحن؟ اين نحن؟ الى ان اعتلى الاخضر الابراهيمي المنصة فتجاوز الكلام العام، وهو ينتقل من موضوع فلسطين الى العراق الى لبنان . وبوضوح شديد وكلام يجمع ديبلوماسية الرجل المخضرم الى وضوح الجزائري الذي مثل الثورة الجزائرية لدى اندونيسيا وهو في العشرين من عمره .وضع الابراهيمي على الطاولة حقيقة المشكلة الفلسطينية، وحقيقة العدوان والاحتلال اللذين وقعا على العراق، مذكرا وباثر رجعي، بموقف شيراك من ذلك، وبما تحقق منه هو وكوفي عنان من عدم وجود اية اسباب حقيقية للحرب، وبكيفية حصول هذه الحرب وما اصاب البلاد من تدمير بعد الاحتلال. ومنتقلا الى الموضوع اللبناني بموضوعية لا تخش كلمة المقاومة وهي تؤكد على ضرورة الحفاظ على الاستقرار. هؤلاء الرجال، قد يبدو واحدهم عاديا لك وانت في بلادك، حيث تجد مثله الكثير، وحيث لا تحتاج إلى قدراته وجرأته لتثبت انك موجود وان لك قضاياك الحقوقية والانسانية الكبيرة التي يجب على العالم الا ينساها، لكنهم يصبحون ندرة، وكنزا ثمينا عندما يصبح وجودهم وكلمتهم قدرتهم على قول هذه الكلمة بجرأة وذكاء يعرف كيف يعبر الى الآخر. عندما يصبح صوتهم ضمانتك كي لا تشعر باليتم، وصوتك انت الى الجمهور الذي يسمع. المحامي البليغ الذي ينقل عدالة قضاياك الى قاعة لا تعرف عنك الا ما يحمله الاعلام المرتهن، وما تريد ان ترسمه لك من صورة مشوهة جماعات المتطرفين من اشباح هنا وكتل هناك، من اغبياء ومخططين يحركونهم. هؤلاء الرجال، وهذا التوجه،يتركونك تسال: اهو زمن مضى؟ أم انه زمن ممتد؟