مادت الأرض من تحت أقدام نيكولا ساركوزي واهتزت أركانها بعد أن تعرض لصفعات قاسية في أقل من شهر أدخلته في دهليز من المشاكل وفي نفق مظلم من المعضلات قد تنحسر معها امال الرئيس المغامر في تجديد ولايته الرئاسية وتجهض مساعيه إلى تغيير وجه فرنسا السياسي والصناعي والاقتصادي .. شعبية متدنية إلى أقصى حد ..خسارة فادحة في الانتخابات الإقليمية ..نقابات غاضبة ..مظاهرات عارمة ..وصحافة ناقدة حينا وساخرة أحيانا ..وبرلمان «يغلي» غضبا من سياسات نيكولا ساركوزي ..مقاطع متعددة من مشهد جبهة الرفض للرئيس الفرنسي الذي وإن لم تفوت المعارضة الفرنسية فرصة لتأجيجها فإن المسؤولية الكبرى في تشكيلها تعود لسياساته ولأفكاره ولتوجهاته ولشخصيته المقامرة والمغامرة .. رئيس منذ الصغر متصلب إلى حد التحجر ..هكذا عرف في المدارس الابتدائية والثانوية الفرنسية ..هكذا كان - وهكذا استمر- .. يسعى إلى الشهرة والظهور بين الناس مهما كلفه الأمر من عناء ومشقة ..يؤكد بعض أساتذته أن نيكولا كان يستفزهم بسؤاله الغريب في مستهل كل سنة دراسية ..أستاذ ماهي الشعبة التي تؤهلني لأن أكون رئيسا لفرنسا ؟ كل عام دراسي وساركوزي يسأل عن الرئاسة بيد أنه لم يسأل يوما عن استحقاقاتها والتزاماتها وموجباتها ..فيكفي أنها تدر عليه شهرة وإحساسا بطمأنينة وراحة بال لم يشعر بهما طيلة طفولته ومراهقته اللتين عاشهما يتيم الأب بعد أن هاجر الأخير من المجر إلى فرنسا عقب الحرب العالمية الثانية.. جموح الظهور استأسد بساركوزي خلال المرحلة الجامعية إلى درجة أنه تاه بين دراسة العلوم السياسية والعلوم القانونية ..أو بين التوق إلى ذياع الصيت في المحاكم أو في الدوائر السياسية ..وبين الخيارين فضل أنجعهما ..فتعلم التشريعات وامتهن السياسة ..التي دخلها من بوابة الإتحاد من أجل الجمهورية السابق ولم يتجاوز بعد سن الثانية والعشرين قبل أن يخوّل له هذا الانخراط إلى أن يصبح عمدة لضاحية نويلي الراقية وهو في الثامنة والعشرين من عمره فقط .. ثلاثون عاما إلا نيف ..كانت كافية ل«ساركو» لكي يتحول من عمادة ضاحية إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية ..وبين الضاحية والعاصمة انتقل نيكولا ساركوزي من وزارة سيادية إلى أخرى وفي كل حكومة كان حاضرا سواء أكانت ميولها يسارية اشتراكية أم يمينية ليبيرالية ..ومع كل حكومة كانت أحلام ساركوزي بتحصيل حلم الطفولة تقترب ..وصوبه لاستشعار الأمان يداعب أنامله .. إلى أن قاد حربه الضروس في «الإتحاد من أجل الحركة الشعبية» ضد فارس الديبلوماسية الفرنسية السابق دومينيك دوفيلبان على رئاسة الحزب وعلى الحصول على ورقة ترشيح الحزب في «رئاسية 2007» .. عندها دقت «الحركة الديغولية» نواقيس الخطر من الرجل الحديدي الجديد ..خشية من ذوبان «الديغولية» في مشاريع إصلاحية تعوزها الرؤية المحددة للذات والاخر ..وتفتقد «المقاربة المتريثة والاستشرافية» للأمور .. ليتحول ساركوزي بذلك – جبرا أو اختيارا – إلى منهج براغماتي في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية واستحالت مواقفه – جبرا لا اختيارا – إلى تيار «ساركوزمي» يخترق المقاربة الديغولية ويتهمها بالتكلس ..والتقوقع ..مما حدا بالعديد من ساسة يمين الوسط إلى الدعوة لإنقاذ البلاد من «المحافظين الفرنسيين الجدد» ولو استلزم الأمر تكوين جبهة يمينية جديدة ترجع ل«الديغولية» هيبتها ونفوذها .. انتشاء في تل أبيب وواشنطن لكم انتشت واشنطن وتل أبيب ..بانتخاب ساركوزي في ذات ربيع ساخن من عام 2007 ..لكم غنت واشنطن طربا ورقصت تل أبيب نشوة بمغادرة شيراك سليل الديغولية ومجيء ساركوزي «قاتل الأب والثائر منه» ..حينها ضحك جورج بوش ملء شدقيه قائلا : كم يعجبني هذا الرجل...أتصور أن العلاقات الأمريكية الفرنسية ستسترجع زخمها مع «ساركو».. وحق لهما أن يفرحا ..ففلسطين والعراق ابتعدتا كثيرا عن قلب وعقل الأيليزيه مع انبثاق «الجمهورية الفرنسية السادسة» ..وإسرائيل غنمت بمبادرة دولية جديدة –الإتحاد من أجل المتوسط - تضمن لها الاعتراف من قبل الدول العربية من «فوق الطاولة» ..والشعوب العربية باتت مختنقة من سياسات تمجيد الاحتلال الفرنسي للدول العربية والمغاربية ..كما أن الأقطار العربية أضحت متأسفة من التدخل الفرنسي في شؤونها الداخلية ومن رحيل زمن كانت فيه «الديغولية» محرارا حصيفا لقياس درجات دفء العلاقات الديبلوماسية من عدمها ..فيما بدأ المهاجرون العرب والأفارقة ينظرون لسياسة الحد من الهجرة وإطلاق الحوارات حول الهوية الوطنية كبوابة لسياسات عنصرية تهدد وجودهم وتقضم أشياء من انتمائهم لفرنسا الدولة والتاريخ والثقافة وليس لفرنسا اليمين المتطرف ..وكمقدمة لإسقاط هوية فرنسية عنصرية عليهم تلغي اختلافهم وتقصي تنوعهم .. هو إذن ..ربيع الغضب يعصف بساركوزي وبخياراته ..وقد لا تهدأ ثورته إلا بثورة ربيعية أخرى من عام 2011 ..فحجم التنديد من جانب ومدى المراجعات التي أقدم عليها ساركوزي لا تبشر بهدوء العاصفة .. وإلى أن يحين موعد الاستحقاق الرئاسي القادم على ساركوزي أن يدرك أنه أضاع وقتا طويلا في استكناه مدارج الوصول إلى الرئاسة ولكنه لم يبذل جهدا يوما لمعرفة وسائل الحفاظ عليها ...فدخول «الذاكرة الشعبية» سهل للغاية وقد لا يتطلب من صاحبه سوى فضيحة أخلاقية ومقالات «جريئة» في الجرائد الصفراء أو كلمة بذيئة أمام تجمع جماهيري كبير ..غير أن دخول المجد , وهذا هو مسعى رؤساء فرنسا الحقيقيين ,يتطلب أفكارا أخرى ورؤى خلاقة ومقاربات واضحة ورجال ..من طينة مغايرة ..