بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي إذا كان كتاب الناقد الفلسطيني سليم النجار قراءة جمالية لشعر حميد سعيد فإن الناقد والباحث العراقي رشيد هارون قدّم لنا بحثا أكاديميا موفقا في كتابه «مصادر الصورة في شعر حميد سعيد». وفي البداية أود أن أنوّه بهاتين الدراستين الجادتين والمكملتين لبعضهما وبصدورهما متزامنتين تؤكدان أن التجارب الابداعية المتوفرة على قدر كبير من الاصالة ستظل موضوع بحث ودراسة، وأنه «لا يصحّ الا الصحيح» ولا يمكن السطو على مكانة أي مبدع واحلال آخر بدلا منه فهذا يصلح في المواقع الوظيفية الى حدّ ما ولكنه لا يصلح للمواقع الابداعية. بعد المقدمة والتمهيد يوزع المؤلف كتابه على ثلاثة فصول، كل فصل منها في ثلاثة مباحث. ويبدو لي أن المؤلف في المباحث التي وزع عليها كل فصل استطاع ان يقدم مسحا بانوراميا لاشتغالات هذا الشاعر الذي يعدّ أحد أغزر شعراء جيله (الستينات) عطاء. فالفصول الثلاثة هي: 1 الانسانيات ومباحثه: الاصدقاء / الشخصيات الادبية / المرأة. 2 المصادر الثقافية ومباحثه: الفن التشكيلي / القرآن الكريم / شخصيات تاريخية. 3 المصادر المكانية ومباحثه: الريف / مدن عربية / مدن أجنبية. ولو أننا عدنا الى دواوين الشاعر لوجدنا المباحث التي ذكرها الباحث حاضرة بكثافة تتراوح بين طبيعة كل ديوان من دواوينه (نشير الى أن الشاعر أقام للعمل في الرباط واسبانيا عدة سنوات وها هو يقيم الآن منذ سنوات في عاصمة عربية هي عمّان). يؤكد الباحث في مقدمته انه اعتمد على ما سمّاها الجدلية بين المصادر والذات، فهذا يوجد (مسوغات المنهج الذي يسعى من خلاله الى الكشف عن العلاقة بين مصادر الصورة والشاعر). ويواصل الباحث القول: (وتأسيسا على ما تقدم اعتمدت شعر حميد سعيد نفسه، وأنا أدرس مصادر الصورة في شعره كما اعتمدت اكثر المصادر صلة بالصورة وأكثرها تشديدا على دور الذات مقصيا تلك الدراسات التي لم تولها الاهتمام الكافي ولا سيما ما كتب عن الشاعر في الصحافة). ويرى أن هذا المنهج منحه (فرصة محاورة عدد من النقاد الذين درسوا حميد سعيد أو غيره كلما تعلق الامر بما يخص الذات). ومن هنا يكشف لنا بأنه مهّد لبحثه هذا بدراسة دقيقة ومكثفة حول الصورة في الشعر الحديث ومسوغات اعتمادها (مستعينا بآراء الشعراء النقاد في المقام الاول). يقول عن (الصورة في الشعر الحديث) إن المصطلح النقدي أي مصطلح يرتبط بعلاقة جدلية مع تطور الأمة ونضجها الحضاري والفكري فيتنامى تبعا لذلك دقة وتوطيدا بالعملية الشعرية وبوصفها نشاطا انسانيا يتصل بالانسان نفسه. وتابع المصطلح ورسوخه منذ أبي نواس وأبي تمام وصولا الى حميد سعيد الشاعر موضوع البحث . من الممكن القول إن سعيد هو من الشعراء الذين يؤرقهم الحاضر العربي ولذا يلوذون الى الرموز المضيئة في هذا التاريخ مستلهمين منها كل ما يبدد العتمة وبتفاؤل لابد منه، لذا فإن شعره ايجابي النزعة، يحاور الممكن ويحاذر الانكسار، هو منتم لشعراء كبار عرفناهم من سليمان العيسي الى شفيق الكمالي الى سامي مهدي الى ممدوح عدوان وغيرهم، حداة ثقاة، وقصائدهم علامات واشارات. حتى في ندبه المدن التي ضاعت كما في أندلسياته فإنه يقرأ التاريخ الاول وكأنه بهذه القراءة يرسم للآتي خارطة أكثر ضوءا وأقوى نبرة. وقد كانت حصيلة اقامته الاسبانية على سبيل المثال ديوانا سماه «ديوان الاغاني الغجرية» كأنه فيه قد أوقد قرابة الدم بين لوركا وأصله الاندلسي في امتداد نوراني لم يطفئه اغتيال لوركا على يد الفاشست ما دام هؤلاء القتلة يتناسلون بأسماء مختلفة ولكن دمويتهم الفائضة هي عنوانهم وهويتهم. وقد اهتم النقاد في وقته بقصائد هذا الديوان الذي أعادنا اليه الباحث، وكم كان بودنا أن لا يحيل في هوامش بحثه هذا على (الأعمال الكاملة) بل على كل ديوان منفردا من أجل ايضاح القصد وانارة المبتغى. هذا مقطع من احدى أندلسياته التي نراها بين أعذب وأشف قصائده، ولننظر كيف يعيد التاريخ نفسه وكيف تتطابق صورة قتلة لوركا وسقوط الأندلس مع اليانكي القادمين من وراء البحار ليشنقوا تاريخ الرافدين بغل بغيض. (نهر من الزعفران ذاكرة خضراء... طير ناعم هذا دم عرفته وهذه قصيدة أشم فيها وطنا يسقط بين الكذب الابيض والأسود جف البحر هل جفت مآقي امرأة تحلم كانت لعبة... في أول اللعبة صنّاع الوطن الاجمل ضاعت مدن تقبع في ذاكرة مثقوبة يسقط منها الشعر أو يسقط منها الدم أو يسقط منها الماء) وما نقوله في ختام هذه ال «محطة» ان تجربة شاعرنا مازالت موضوعا ممكنا جدا لقراءات أخرى خاصة الأكاديمية منها من طراز دراسة رشيد هارون القيّمة هذه. صدر الكتاب (192 صفحة) من منشورات فضاءات (عمان)