٭ بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي وصلني أخيرا كتابان جديدان يتناولان تجربة الشاعر العراقي المعروف حميد سعيد الذي اضطرّ الى الإقامة في عمّان بعد احتلال العراق عام 2003. أما الكتاب الأول فهو للناقد الفلسطيني سليم النجّار وعنوانه «تحوّلات القصيدة قراءة جمالية وفكرية في شعر حميد سعيد». وسأخصّص هذه ال«محطة» لهذا الكتاب الذي ألّفه ناقد شاب كان قريبا من الشاعر بحكم تواجدهما معا في العاصمة الأردنية عمّان التي لجأ إليها عدد كبير من أدباء ومثقفي العراق منذ سنوات حصار العراق وازداد عددهم بعد الاحتلال. وأعتقد أن تعرّف الناقد على من يكتب عنه والتواصل معه انسانيا في أحاديث تتولد عن اللقاءات من شأنه أن يمدّ الناقد بإضاءات كثيرة. وبالنسبة الى حميد سعيد فإن هناك عددا من المؤلفات صدرت في السنوات الأخيرة عن تجربته الشعرية بشكل لم يحظ به شاعر آخر من جيله عدا الرسائل الجامعية التي كتبت وتكتب هنا أو هناك. ومن الواضح أن سليم النجار قد استوقفته تجربة حميد سعيد بحيث خصّها بكتاب كامل لأنه يذكر في مقدمته بأننا (حين نختار دراسة تجربة شعرية ودون غيرها فإن وراء مثل هذا الاختيار دوافع محددة وفي مقدمة هذه الدوافع ومن أهمها تفرد التجربة وتميزها). وهذه ملاحظة مهمة لأننا لو قرأنا على ضوئها تجارب الشعراء العراقيين الأعلام والأساسيين منذ الرواد لوجدنا تفرّد كل واحد منهم واختلافه عن الآخر فلا السياب يشبه البياتي ولا نازك تشبه بلند الحيدري أو محمود البريكان أو عبد الرزاق عبد الواحد. وكذا الأمر بالنسبة الى جيل الستينات حيث تفرّد كل شاعر عن غيره رغم أنهم أبناء بلد واحد ومرحلة واحدة، فسامي مهدي أو حسب الشيخ جعفر أو حميد سعيد أو فاضل العزاوي أو سركون بولص مثلا يشكل كل واحد منهم صوتا متفرّدا واشتغالا شعريا مختلفا، ولذا ما إن يذكر الشعر العراقي حتّى تذكر هذه الأسماء ولا علاقة لهذا بانتماءاتهم السياسية السابقة أو اللاحقة بل العلاقة كلها هي مع شعرهم ومدى إضافاته وهذا ما يحث عنه سليم النجار في تجربة حميد سعيد. سليم النجار في كتابه هذا توصل الى عدد من الاستنتاجات المهمة وفيها الدليل أن قراءته كانت على قدر كبير من التأني. يقول مثلا: (طالما رأيت في تجربة حميد سعيد الشعرية تمرّدا عاصفا وعميقا يدفع الى مزيد من التحول أرى فيه صورة جمر مفتوح على الريح). هذا مثلا هو استنتاج جمالي تعمده النجار ونصّ عليه في عنوان كتابه. ولعله في استطراده من هذا الاستنتاج أوضح ما ذهب إليه أكثر إذ قال: (يحاول هذا الكتاب الكشف عن اشتغال حميد سعيد شعريا، في توظيف قدراته وخبراته لإنتاج شعري رغم كل تعاليه الابداعي، لا يريد التفريط في التواصل مع الآخر وذلك بالانخراط في ضرورتين، ضرورة الوضوح وضرورة الاقتصاد الأقصى في الوسائل حيث يكون التواصل بجميع مستويات التوظيف الابداعي ليصل التواصل الى ذروته في الحوار بين وعيين على حد تعبير حميد سعيد، وعي المبدع ووعي المتلقّي). ولعل الاستنتاج المهم في السياق نفسه هو الذي ذكر فيه بأن (حميد سعيد اقترنت تجربته الشعرية منذ بداياتها بحلم الانسان العربي الذي يعرف ماذا يريد، ويؤمن بأن الحرية هي جوهر ثقافته وأساس تشكل وجدانه فردا وأمة). أما فصول الكتاب فهي خمسة فصول، أولها (لماذا حميد سعيد؟). وما ورد في هذا الفصل ربما كان النجار قد أتى عليه في (مقدمة) و(مدخل) و(ضدّ الصمت) وكلها عناوين لغاية واحدة، ونعتقد أن شاعرا متميزا له تجربة راسخة مثل حميد سعيد من الممكن ولوج عالمه الشعري نقديا دون البحث عن مسوّغات نقدمها حول ذلك. وقصيدة حميد سعيد في كل مراحلها، بل ومنذ بداياتها في المجلاّت اللبنانية «المعارف» ثم «الآداب» والعراقية مثل «الكلمة» وبعدها «الأقلام» هي قصيدة عربية، أي أنها لم تقع في مفردات الشعر المترجم (وهذه المسألة داء أصاب الكثير من الشعراء)، وعندما أقول «عربية» لا لأنها مكتوبة باللغة العربية، بل وبكل رموزها ودلالاتها وما حوت من إحالات. وأعتقد كصديق ومتابع لتجربة الشاعر وكذلك تجربة أبناء جيله أنه لم يمل الى «مفرقعات» لفظية استهوت شاعرا مثل فاضل العزاوي دون المساس أو التقليل من أهمية تجربته، أقول إن قاموسه يأخذ المفردة التراثية ويعصّرها، يجعلها ابنة يومها، كأنه يعتصر كل نسخها لتعطي أهمّ ما فيها. وكتاب سليم النجار هذا توفّر على الجدية وعلى محبته للشاعر وشعره ولذا حمل الكثير من الضوء. صدور الكتاب من منشورات تالة (دمشق) في 214 صفحة من القطع المتوسط