عقد يمضي... و.آخر يجيء ومصابيح الإبداع ظلّت بإشعاعها تضيء الدروب، والبيوت، ومحاريب المساجد، هنا وهناك متلألئة بنور المحبة لتونس التاريخ والحضارة... تونس الرحمة والعطاء والإخاء... تونس التين والزيتون وابن خلدون، وإذا الشعب يوما أراد الحياة تونس السابع من نوفمبر والإعلام الحر النزيه، ففي أرضنا ينبت الزهر ويثمر، وعلى أرضنا يتلاقى الأصدقاء ويتعانق الأشقاء... ومن أرضنا فقط تنطلق قوافل الخير حاملة راية وطن أبي وصورة قائد أبر اسمه زين العابدين بن علي. أكثر من سبعين سنة مرّت على انبعاث الإذاعة التونسية وهي مازالت تترقرق بدماء الشباب متحدية صامدة أمام المنافسات القادمة إليها من مختلف البقاع والأصقاع عبر إذاعاتها وقنواتها التلفزية وما تضمه برامجها من غث وسمين... أطباق محلاة بوجبات لذيذة المذاق.. فائحة بنكهة الدسامة نصح، توعية وإرشاد، أخبار وفقرات ترويحية وترفيهية متنوعة تدل على كفاءة وحرفية إخواننا القدامى منهم والجدد. لا أحد باستطاعته أن يتذكّر بداية علاقته بالإذاعة ولكن الصورة التي مازالت وستبقى راسخة في الأذهان هي ذلك الصوت المنبعث «حديثا» غناء وتمثيلا من زاوية البيت المتواضع أو المقهى العربي ودكاكين العطارة، والحلاقين والفطايرية، كنا ونحن صغارا نلتمّ حول هذه القطعة الصغيرة التي تسمى المذياع لنستمع إلى فصول معينة من مسرحية أعدها صلاح الدين بلهوان والحبيب بلحارث، أو الإنصات لأغنية نادرة فيها من الدلع الشيء الكثير من خلال برنامج «ليلة من ليالي تونس القديمة» للثنائي الراحل عبد المجيد بن جدّو وقدور الصرارفي، ومتابعة آخر المستجدات على الساحتين الوطنية والدولية، فكيف لنا أن ننسى إذاعتنا وزمانها الرائع الجميل؟ زمن متحف الأغاني، والأسرة البيضاء لبوراوي بن عبد العزيز و«عبرة ونغم» في تنويعة للزميل عادل يوسف وتلك المنوعة الصيفية «على الشط» ومن سينسى «قافلة تسير» البرنامج الذي يحتفي فيه المغنون والشعراء الشعبيون، وصوت أبهر الأغنية الشعبية اسماعيل الحطاب في «الخمسة اللي لحقو بالجرّه» ونجمة الطرابلسية ورائعتها عن المرسيديس «ال250 جديدة» وهل تغيب عنا حصة الإعلامي القدير محمد الهادي بن خامسة «ما تسمعه اليوم.. تقرأه غدا.. وها هو صوت المطربة الكبيرة زهيرة سالم يأبى الانصياع لإرادة الإقصاء والتهميش بتلك الأغنية الصباحية اللطيفة «يا نايم اصح من النوم... واستنشق ريحة الأزهار» فيطوق هذا الرحيق الياسميني الجميل عنق زميل أحببناه ومازلنا نحبه محمد النوري عبيد... فما أحوجنا إلى نسمات بليلة معطرة تعيدنا إلى ماضي إذاعتنا التونسية... لقد اقتسمت الإذاعة معنا لذة الحياة وشرّعت في وجوهنا أبواب ونوافذ الأمل والتفاؤل... فنسجت لنا سجادا عليه نسير بتباه وكبرياء... أدوار هذه الساحرة دائمة الحضور والتواصل فمن يريد أن يتعلم ويتثقف يجد ضالته، ومن يود أن يستمع إلى الغناء يطرب بما يشاء... ومن يبحث عن الصحة والشفاء يظفر بكم من النصائح... ومن ضاقت به السبل عليه ب«العروي»، وما أكثر الفقرات والبرامج والحصص عبر هذه النافذة اكتشفنا عوالم أخرى قربتنا إلى محيطنا المحلي فسافرنا بحثا عن تاريخ آخر، وجغرافيا أخرى، وأناس آخرين طيبين مثل شعبنا، من خلال إذاعة الشرق الأوسط، و«هنا لندن» و«صوت العرب» و«راديو بغداد» وعدد من الإذاعات الأجنبية الفرنسية تحديدا... وكان يوم السبت 7 نوفمبر 1987 وفي صباحه المبارك السعيد عندما انفردت الإذاعة التونسية بالتبشير بميلاد عهد جديد وعصر أجد، فانتفض الشعب تغمره الفرحة بينما كان المكي كربول يتلو البيان ويهنئ الناس بالتغيير المجيد... وانطلقت الإذاعة في القطع مع رواسب الماضي، وتخلص الإعلاميون من دوامة القيود وانعتقت الرقاب من السياط وتحوّلت مؤسسة لافايات إلى جنة يفوح عطرها إبداعا فعانق الزمان المكان وتطيبت النفوس وركب الجميع سفينة السابع من نوفمبر اليد في اليد من أجل إذاعة تونسية ترنو إلى الغد وأعلام ينوه بإنجازات هذا البلد، فكانت إذاعتنا عمومية وطنية تونسية إلى أبعد الحدود.. رصينة هادئة قريبة من مستمعيها قوية ومتفاعلة سباقة إلى تغطية الأحداث وهي اليوم ونقولها صدقا لا تبجحا، صاحبة الخبر اليقين والمعلومة الصحيحة بل أكثر من ذلك الإذاعة التونسية منورة للعقول مؤلفة للقلوب وحامية للتراث، متطلعة للمستقبل معاضدة للجهد، مفتوحة متفتحة رافضة للإقصاء قاصمة ظهر التهميش. فلتحي إذاعتنا التونسية وليحي زملاؤنا ونحن معهم في وطن التغيير آمنين مطمئنين إلى أبد الآبدين.