رغم سنواتها السبعين، مازالت الاذاعة التونسية شابة صامدة أمام المنافسات، القادمة إليها من الاذاعات او التلفزات ومن الهواتف النقالة او الانترنات، محليا وخارجيا. وإذا كانت الاذاعة بشكل عام تصنع علاقة ودّية مع المستمع، فإنّ الاذاعة التونسية ذهبت بهذه العلاقة إلى ماهو أبعد: حميمية، نصح، ارشاد، إخبار، مرافقة، ترويح، تهذيب، توعية واشياء أخرى كثيرة جدّا! لا أذكر شخصيا بداية علاقتي بالاذاعة ولكن الصورة التي مازالت راسخة في ذهني هي انّها ذلك الصوت المنبعث (كلاما غناء موسيقى تمثيل) من «قطعة الموبيليا الفاخرة» الموضوعة اما في صدارة البيت او صدارة الدكان (لا سيما محلات العطرية والحلاقة)... كما اذكر أنّه في بعض الاحيان يدعونا كبار السن الى مغادرة مجالسهم... حتى يواصلوا الاستماع الى فصول معيّنة من مسرحية إذاعية او الاستماع الى فصول معينة من مسرحية إذاعية او الاستماع الى اغنية فيها من «الدلع» الشيء الكثير أو حتى بعض الاخبار الهامة التي يمكن ان تسبب وجع الرأس. وأذكر انني وجمعا من أترابي وبحثا منا على اكتشاف الممنوعات التي يحجبها عنا اولياؤنا توصلنا الى إقامة علاقة وطيدة بالاذاعة فبدأنا بالاستماع الى الاغاني ومن بعدها الى التمثيليات فالى نقل المباريات الرياضية ثم الى البرامج المتخصصة فالاخبار. وانتبهنا الى أنّ أطراف كثيرة محيطة بنا كانت تجد ضالتها في الاذاعة، فمن يريد ان يتعلم يمكن ان يستمع الى دروس، ومن يريد الصحة، يمكن ان يظفر بنصائح، ومن يبحث عن الغناء، يسمع ما يشاء، بحيث لاحظنا التصاقا كبيرا بالاذاعة من جميع الفئات ومن خلال عديد البرامج والفقرات. *********** من هنا اكتشفنا، كما اكتشف غيرنا، عوالم أخرى مغايرة لعالم قريتنا وبالتالي لم تعد اذاعة تونس بما كانت تقدمه لاسيما منذ مطلع الاستقلال قادرة على ان تشفي غليلنا، فكان ان هجرنا الى اذاعة الشرق الاوسط من القاهرة وخاصة الى اذاعة هنا لندن التي سلبت عقولنا في وقت ما، قبل ان نصل الى صوت العرب وراديو بغداد اضافة الى الاذاعات الفرنسية والايطالية التي كنا نلتقطها بسهولة لا سيما في الليل. وبدل ان تعدّل الاوتار، كما يقال اليوم، غرقت اذاعتنا في المحليات الى أبعد الحدود وتراجعت في مادتها مساحة الحرية فاقتصر دورها على الدعاية للبرامج السياسية المقترحة انذاك من خلال العديد من الانتاجات الاذاعية. وبذلك قطعت حبل الوصل مع الاجيال المتعاقبة في عدة مناسبات بأن كرست هيمنة الرأي الواحد محليا ونظرة محدودة للأمور عربيا فكانت في قطيعة مع الواقع اثناء عدة محطات في تاريخ تونس مما لا يسمح المجال بالتعرض اليه عدا واحدة أظنها باقية في أذهان الاجيال الجديدة وهي تتعلق بالاعلان عن الغارة الاسرائيلية التي استهدفت مقر منظمة التحرير الفلسطينية بتونس (برج السدرية تحديدا) يوم غرة اكتوبر 1985 حيث عبثت الاذاعة بمشاعر الشعب التونسي كاملا فقدمت الخبر في المرتبة 13 من اخبارها المقترحة في نشرة الواحدة ظهرا من ذلك اليوم وزادت فقالت انّ طائرات مجهولة الهوية دخلت الفضاء الجوي» والحال ان العالم أجمع أقام الدنيا ولم يقعدها إخبارا واحتجاجا على امتداد يد اسرائيل الى ابعد من 2500 كلم عن حدودها، لملاحقة الفلسطينيين وقتل عدد من الابرياء من هؤلاء ومن التونسيين *********** في السادسة والنصف من صباح السبت 7 نوفمبر ,1987 انفردت الاذاعة التونسية بالتبشير بالعهد الجديد، ولكن هذا السبق لم يكن حافزا لها للدخول في عهد جديد فبقيت وفية لتقاليدها القديمة وميكانيزماتها الموروثة ومنها مثلا، وعلى سبيل الذكر لا غير، أنّها لم تعد للشغالين والنقابيين الحصة الاذاعية التي سلبت منهم وواصلت حرمانهم منها رغم ان سبب قطع الحصة ذهب دون رجعة ورغم ان اطراف الخلاف الذي ادّى الى قطع الحصة ذهبوا، هم أيضا، دون رجعة. قلت، ظلت الاذاعة كذلك الى اليوم الذي ظهرت فيه «موزاييك» فأصيبت بدوخة المرحوم محمد الاكحل، حيث اضطرب ميزاجها وتعكّر صفوها واهتزت على أكثر من صعيد. وحتى لا أدخل في جدل بيزنطي حول ما اذا كانت البرامج والمواد المقترحة في اطار منافسة «موزاييك» جيدة ام لا، وظيفية ام لا، فانني اكتفي بعرض الصورة التي أريدها للاذاعة الوطنية التونسية. أريدها اذاعة عمومية، وطنية، تونسية بالطبع، رسمية الى أبعد الحدود، رصينة، هادئة، قريبة من مستمعيها، متفاعلة مع كل ما يجري سباقة الى التغطية الاعلامية لا للاحداث السياسية والرياضية المحلية فحسب بل لكلّ ما له علاقة بالوطن والمواطن. أريدها صاحبة الخبر اليقين، صاحبة المعلومة الصحيحة، مقدّمة الاغنية الملتزمة، والمسرحية الهادفة، منوّرة للعقول، مؤلفة للقلوب، حامية للتراث ومتطلعة للمستقبل، معاضدة للجهد المبذول هنا وهناك في بناء البلاد، مفتوحة على الجميع متفتحة على كل الاراء غير متعمّدة للاقصاء، غير جانحة للتهميش. هذه بعض من الملامح التي أريد توفرها في إذاعتنا الوطنية، منها ماهو موجود بعد ويجب ان يتحسن ويبرز للناس ومنها ما يجب ان يتوفر بأسرع وقت ممكن قبل ان تضيع عليها مساحات جديدة من الفضاء السمعي. وفي كل الحالات تهانينا لكل العاملين هناك، وعلى أيديهم جميعا نشدّ. *********** شكرا للاخوة الايطاليين، فقد أمتعونا حق الامتاع بالنقل المباشر لمقابلات بطولة اوروبا لكرة القدم الجارية في سويسرا والنمسا. فعلى الرغم من أنّ علامة الدولار او الجنيه مرسومة قرب اسمها في قائمة القنوات التلفزية، فإن العزيزة «راي أونو» انفتحت أمامنا بكبسة زر أسعدتنا كثيرا وظلت مفتوحة طوال البطولة في حين شفّر الاصدقاء العرب قنواتهم وفرضوا علينا أداء الرسوم. وبالمناسبة عدنا لاكتشاف «الراي أونو» فإذا بها وفيّة لتقاليدها ولأقطابها من الصحافيين والمعلقين والمقدمين ولمتفرجيها ومنهم نحن الذين عرفناها منذ اواسط الستينات ومحافظة حتى على العديد من البرامج والعلامات والألحان المميزة (شريط الانباء مثلا) رغم علامات التشبيب والتجديد الكثيرة والواضحة. نذكر للاخوة الايطاليين أنهم لما فازوا ببطولة العالم سنة 1982 في اسبانيا، أخذوا الكأس وسافروا بها الى لبنان وأهدوها الى سكان المخيمات الفلسطينية التي تعرضت سنتها الى حرب ال 80 يوما التي شنها عليهم اريال شارون وتحديدا الى ما بقي من سكان مخيم صبرا وشاتيلا الذي كان بدوره تعرّض في نفس الفترة الى عملية إبادة جماعية شاركت فيها عدة أطراف عربية وأجنبية.