في مقدّمة كتابه الشهير «أصول» فسّر الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف سبب اختياره لهذه الكلمة عنوانا عوض كلمة «جذور» التي هي أول ما يتبادر إلى الذّهن بأن البشر لا يحتاجون إلى الجذور مقدار حاجتهم إلى الأصول، فالكلمة الأولى تركّز على نقطة الانطلاق أكثر من التّركيز على الطّريق الذي ينطلق من تلك النّقطة، وقد تكون الطرق التي يشقّها المرء في حياته، وما يكتسبه من تجارب وما يتلقّاه من ثقافات خلالها، أهمّ من نقطة الانطلاق التي تبدأ منها الطّرق . فكلمة «أصول» عمليّا تمثّل المنطلق، أو أصل الطّريق، أمّا كلمة «جذور» فتعني ما هو منغرز في الأرض، ينمو فيها، ولكنّه ماكث، ولا ينطلق. وما ذكرناه هنا هو جزء مركّز من أفكار أمين معلوف عن الأصول والانتماء والهويّة، طوّرها من بعد في كتابه « الهويّات القاتلة» الذي خصّصه لدراسة الهويّة وكافّة تمثّلاتها من حيث التكوّن والتّنوّع والتلوّن والهدم والبناء . يعود اكتشافي لهذا الكاتب بعد هجرته من لبنان عام 1976 غداة الحرب اللبنانية حين كنت أقرأ مقالاته السياسية والاقتصاديّة في مجلّة «جون أفريك» الصّادرة في باريس باللغة الفرنسية. وقد رأس تحرير تلك المجلّة زمنا، ثم غادرها ليتفرّغ للكتابة الأدبيّة. وما كنت أظنّه بعد تركه العمل الصّحفي سيبرع في الكتابة الروائية، وينال فيها ضعف ما ناله من نجاح في الصّحافة، والكتابات السياسية. ثمّ أعدت اكتشافه عند قراءتي لروايته الجميلة «ليون الإفريقي»، وافتتاني بموضوعها وأسلوبها، وطريقة كاتبها في تحويل المادّة التاريخيّة إلى مادّة روائيّة، وجعل كلتيهما تتداخلان دون أن يطغى الجانب الفنّيّ على الجانب البحثي أو العكس. ويظهر أن قراءة التاريخ واستكناه أسراره ومعانيه قد استهوت أمين معلوف منذ اشتغل على كتابه « الحروب الصّليبية كما رآها العرب» الصّادر عام 1983، بل أزعم أنه عثر عند جمعه لمادّة الكتاب على هوايته الحقيقية، وهي كتابة الرّواية التّاريخية، فكان المنطلق صدور «ليون الإفريقي» التي نال عنها جائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1986، تلتها رواية «سمرقند» عام 1988، ثم «حدائق النّور» عام 1991، و«القرن الأوّل بعد بياتريس» عام 1992، ثمّ «صخرة طانيوس» التي نال بها جائزة غونكور الفرنسية عام 1993. يضاف إلى هذا انفتاح معلوف على مختلف الحضارات والثقافات، ومنها تكوّنت الخلفيّة الحقيقية لأعماله الرّوائيّة، مما يظهر بجلاء إمّا في تناوله لشخصيّاته المختلفة والمتباينة، أو عند جمعه بين أحداث متباعدة في الزّمن والمعنى. وقد شرح الكاتب لجريدة «الحياة اللندنيّة» طريقته في الاقتباس من التاريخ فقال: «إن الأشياء الثّابتة تاريخيا يمكن إنجازها غالبا في عشرين صفحة، لكنّ على الكاتب أن يقرأ كلّ ما يقع تحت يده من وثائق عن تلك المرحلة تّاريخيّا واجتماعيّا وسياسيّا. إنني أكتب رواية، لكن ضمن إطار الرّواية أحاول إلى أقصى حدّ اجتناب أيّ خطإ من النّاحية التّاريخية، ومع ذلك فواجب الأديب الأوّل ليس تجاه التّاريخ، بل تجاه المقاييس الفنّيّة والجماليّة. ليس هناك واجب علميّ، بل هناك واجب فنّيّ أو جماليّ، والتساؤل لا يكون حول الطّريقة التي أدخل فيها التّاريخ إلى الرّواية، بل كيف عليّ إدخاله، ووفق أيّ فنّ». وفي شهر أكتوبر الماضي جاءتنا الأخبار بحصول معلوف على جائزة «أمير أستورياس للآداب»، أرفع جائزة تمنحها إسبانيا حسب سلّم الجوائز التّقديرية. وقد جاء في تقرير لجنة التحكيم «أن أعمال أمين معلوف المتنوّعة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة تجعل منه أبرز الكتّاب المعاصرين الذين سبروا بعمق ثقافة حوض المتوسّط كمساحة رمزيّة للتّعايش والتّسامح». وقد ورد نفس المعنى بقلم النّاقد اللّبناني عبده وازن عند ما كتب: «يصعب حصر روايات أمين معلوف في عالم معيّن، فهي أعمال روائيّة بقدر ما هي أعمال تاريخيّة، وهي تخاطب الإنسان حيثما كان، وتتوجّه إلى الذّاكرة والمخيّلة في وقت واحد». بنيله هذه الجائزة ينضمّ كاتبنا اللّبنانيّ – نسغا وروحا - إلى قائمة كبار الأدباء العالميّين الذين سبقوه إلى نيلها، ومنهم البيروفي ماريو فارغاس يوسا، والإسباني كاميليو خوسي سيلا، والألماني غونتر غراس، والألباني إسماعيل قدري. وإنما أردنا من هذه النّافذة التوجّه إليه بالتّهنئة لحصوله على هذا التقدير الذي صارت تشحّ به الأيّام على الكتّاب العرب، أكثر فأكثر.