لم تكد سحب مظاهرات التنديد بنظام التقاعد تنقشع من سماء الايليزيه وساكنه نيكولا ساركوزي حتى تفجرت قنبلة سياسية جديدة هي أشدّ وطأة وأكثر ثقلا من كافة سابقاتها. «كاراتشي غايت»، هكذا اختارت الصحافة الفرنسية نعت التسريبات الوزارية والاعلامية التي اتهمت ساركوزي لا فقط بالسكوت عن عمولات مالية، هي في عرف السياسيين رشاوى معلنة، وتوظيفها في حملات انتخابية رئاسية لبطون اليمين الفرنسي منتصف التسعينات من القرن الماضي وإنما بالتسبب في مقتل 11 فرنسيا خلال تفجير «كاراتشي عام 2002». الموضوع شائك للغاية، والأسماء المورطة أو المرشحة لتكون مورطة كبيرة وعريقة ومؤثرة في الساحة الفرنسية غير أن الأهمّ من «قضية كاراتشي غايت» هو السلسلة المتواصلة واللامتناهية من المشاكل والفضائح والشوائب السياسية التي تلف حول عنق ساركوزي وتطرحه أرضا كلما خرج من حلقة منها. صحيح أن طريق كل قائد سياسي مزروع بالألغام والمطبات وهذا الامر لم يخرج عنه أحد غير أن الصحيح أيضا أن حكومة ساركوزي حاصرتها الفضائح من كل جانب وأتت على رؤوس منها بل واهتمت فحسب بمعالجة هذه الفضائح التي أصبحت شغلها الشاغل وهي سابقة سياسية فرنسية تحيل على فرضيتين إما أن طبيعة الأنظمة السياسية وأولوياتها تغيّرت. وهي فرضية شبه مستحيلة. وإما أن هناك «رفضا شعبيا» لساركوزي يتمظهر كل فترة في شكل يستجيب لمقتضيات الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ما يرجح هذه الفرضية أمران، الأول ان جل التهم «استلّت» من المناصب القديمة التي تبوأها ساركوزي قبل وصوله الى الرئاسة (بيتنكور... كاراتشي...) والثاني إن المظاهرات الشعبية الواسعة الرافضة لنظام التقاعد سرعان ما تحوّل، جانب كبير منها على الأقل الى مناسبة لمحاسبة ساركوزي وللتعبير عن الاستياء الشديد الذي يكنه كثيرون له. ويجب علينا في هذا السياق أن نتذكر جيدا الاشارات المتكررة لكارلا ساركوزي زوجة الرئيس الفرنسي خلال المظاهرات، وهي نقطة تبرز لا فقط الامتعاض الشعبي وانما أيضا وهذا الأهم «شخصنة المشاكل» واختصارها في شخص واحد مستهدف. «كاراتشي غايت» تبرز أيضا أن قطاعا كبيرا من المجتمع الفرنسي لا يهتم كثيرا برؤى ومشاريع ساركوزي وان الأخير فشل في تحقيق استحقاق اجتماع الفرنسيين حوله لتحدي المصاعب الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد، باعتبار أنها تكشف عن جفاء شعبي إزاء «البرنامج الساركوزي» وعن تفص منه وعن سعي الى اسقاطه والاطاحة به من الحكم حتى وان كانت هذه الاطاحة رمزية في شكل تقصّ عن ضلوع له في قضية فساد مالي أو سياسي. لن نشك أبدا في أن ساركوزي عاجز عن الفوز بولاية ثانية ولا في أن الحزب الحاكم «الاتحاد من أجل الحركة الشعبية» يفكر في ترشيح شخصية سياسية أخرى تراهن بجدية على الأقل في رئاسية 2012 ذلك أن الرؤوس الكبرى للحزب بدأت تدرك بأن محاصرة الرفض الشعبي في شخص ساركوزي أفضل بكثير من انسحابه في حال ترشيحه على الحزب برمته او على اليمين الفرنسي بأكمله وتيقنت أيضا ان ما بعد «كاراتشي غايت» فضائح عديدة طالما ان شعار اللحظة الراهنة هو استرداد فرنسا المسلوبة سياسيا والمنهوبة ثقافيا وحضاريا... من ساركوزي وأتباعه وفق ما يعتبره خصومه.