بمعنى الفداء والشهادة... هو شهيد حي... يحمل كفنه على يديه ويخوض عباب القضية غير عابئ بجبروت الجلاّد... يشق طريقه حتى طلوع الشمس... شمس الحرية... فإما نصر وإما شهادة تمرّر المشعل الى العشاق... عشاق فلسطين... عشاق الوطن. وبمعنى الحرية والانطلاق، هو أسير... لكنه أسير حرّ... بلغ أعلى درجات الحرية حين صنع من قضبان سجنه سجنا لجلاديه... وحين اخترق صوته وفكره وعناده وشراسته في الصمود والنضال حدود زنزانته الخانقة لتصافح المناضلين الشرفاء في كافة أرجاء فلسطين... وفي كل ركن من الوطن العربي الكبير وفي كل شبر من المعمورة يقف عليه انسان شريف، مؤمن بقداسة الحرية وبحتمية طلوع شمسها. بلغة النضال، هو من علّم النضال مفردات الصمود والتحدي... وبلغة الصبر، هو أيوبي الصبر... يعلّم الصبر كيف يعاند الطاغوت والحقد والجبروت، ويصبر... إنه صقر فلسطين، المناضل مروان البرغوثي الاسير الحر الذي دكّ مؤخرا جدران زنزانته لينطلق صوته مدويا، مزلزلا ليحط في الجزائر العاصمة التي احتضنت قبل أيام مؤتمرا حول الأسرى... وأي عنوان أفضل منه لهؤلاء الناس الشرفاء... وأي صوت أبلغ من صوته لايصال الرسالة رسالة الصمود والشموخ في زمن الانكسارات والانهيارات... زمن صار فيه الانحناء للعاصفة يستدعي المزيد من الانحناء لتنهار قيم ويسقط رجال و«يتوب مناضلون». مروان البرغوثي... لكأنه انسان قُدّ من معدن النضال الخالص... كأنه خلق ليكون للنضال الرمز والعنوان... لكأن ا& بعثه ليكون محجّة المناضلين ومزارهم حين تعصف بهم رياح التحولات والانهيارات الكبرى... وحين يصبح الشرفاء الصامدون الصابرون بمثابة «الديناصورات» أو الكائنات الغريبة التي لا تفهم أصول «التكتيك»... منذ ولادته عام 1959 في قرية كوبر شمالي رام ا& متوسطا اشقاءه الستة انطلق ليخط الحروف الأولى في مسيرة نضالية بدأت وهو طفل وشبل وشاب... فلقد فتح عيونه البريئة على سطوة الجلاّد وجبروته... وعاين قهر المحتل الصهيوني وتفنّنه في اذلال شعبه الفلسطيني وفي التنكيل بحريته وبكرامته... كل شيء حوله كان يدعو للثورة والتمرد والعصيان... ولم يكن وهو الفتى الذي كبر وهو لا يزال صبيّا ليكبت عناوين رفضه للجلاد ولغطرسة الجلاد، أو ليكظم غيظه إزاء ممارسات موغلة في الحقد... فلم يكد يبلغ الخامسة عشرة حتى كانت أولى مصافحاته مع السجن والسجان ليقضي خلف القضبان 5 سنوات بالتمام والكمال (1978 1983)... سنوات استغلها الفتى الصغير لتدارك ابعاده عن الدراسة بأن حصل على الثانوية العامة داخل السجن... لم يكتف بذلك بل زاد فتعلم اللغة العبرية (ليعرف عدوه أكثر ويغوص في خبايا عقليته المريضة أكثر) وكذلك الفرنسية والانقليزية... من رطوبة الزنزانة ينتقل صاحبنا الى جامعة بئر زيت... تلك القلعة النضالية الشامخة التي تخرّج منها آلاف المناضلين والتي سرعان ما حملته الى أعلى المراتب... حيث ترأس لثلاث دورات متتالية مجلس الطلبة فيها ومنها انطلق ليؤسس منظمة الشبيبة الفتحاوية في مطلع الثمانينات لتصبح أكبر منظمة جماهيرية في الأراضي الفلسطينية... ولتتحول مع الأيام الى أكبر حاضنة للانتفاضة المباركة الأولى التي فجّرت عام 1987... من اعتقال الى اعتقال مرّت أعوام الثمانينات على المناضل الكبير مروان البرغوثي... لا يكاد يخرج من السجن الا ليعود إليه... اقترن اسمه بالانتفاضة ليكون عقابه الابعاد الى الاردن (1987 1994) حين ابتدع رابين ما يسمى سياسة الابعاد في محاولة يائسة لافراغ الارض من المناضلين. سنوات الابعاد لم تكن سنوات عجافا... بل كرّسها الشاب اليافع لتجذير جذوة النضال فيه وتمرير شعلتها الى الأطر التنظيمية حتى انتخب عام 1989 عضوا في المجلس الثوري لحركة «فتح» ليكون أصغر عضو من ضمن 50 عضوا... وفي أفريل 1994 عاد الى «فلسطينه» التي سكنته حتى النخاع وأحبّها بلا حدود (إثر اتفاقيات أوسلو) وانتخب عام 1996 عضوا بالمجلس التشريعي عن دائرة رام ا& في اطار الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية. تتعدد المنابر وتبقى الرسالة واحدة هي هي... كل لقاء توعية وتحسيس... وكل اجتماع حمّال مبادئ وقناعات... وكل تجمع فضاء للثورة وتمرّد على السجن والسجّان... بحسّه السياسي المرهف وبإدراكه العميق لطبيعة العقلية الصهيونية استشرف صاحبنا ان «عسل أوسلو» الى زوال وأن المواجهة الصعبة قادمة لا محالة ومعها احد احتمالين: إمّا شهادة وإمّا اعتقال... وكم مرّة نطّ فيها من كمين الى كمين... وكم مرّة مرّ بين رصاصات المحتل... وكم مرة نجا من صاروخ مجنون... كان رأسه مطلوبا... «ميتا أو ميتا» كان يريده الارهابي شارون... «يؤسفني إلقاء القبض عليه حيّا، كنت أفضل ان يكون رمادا في جرة»... بهذه العبارات الحاقدة عقّب السفاح على عملية اختطاف مروان عام 2002 اثر انتفاضة الأقصى... لم تكن كلمات شارون وحده تقطر حقدا بل ان كلمات مسؤولين آخرين قطرت بحقد من نوع آخر... فقد علّق موفاز على «الاختطاف بالقول» ان اعتقال البرغوثي هو هدية عيد الاستقلال التي يقدمها الجيش للشعب الاسرائيلي وان اعتقاله ضربة قاتلة للانتفاضة... فيما قال (الياكيم روبنشتاين) المستشار القانوني للحكومة... «ان البرغوثي مهندس ارهابي من الدرجة الاولى... وقد راجعت ملفاته طول ثلاثين عاما ووجدت انه من النوع الذي لا يتراجع ولذلك يتوجب ان يحاكم بلا رحمة وان يبقى في السجن حتى موته»!! «يتوجب ان يبقى في السجن حتى موته»... أبلغ تعبير عن عقلية صهيونية مريضة تحقد على كل نفس مقاوم في أرض الرباط... عقلية تعشش في فكر وقلب كل صهيوني غاصب وهي التي قادت القضاة في «واحة الديمقراطية» الى الحكم على مروان بخمسة مؤبدات مع 40 عاما (4 جوان 2004) لهذه الدرجة يهابه جلاّدوه... ولهذه الدرجة يقدر السجين على سجن سجّانه... هل انتهت القصة؟ كلا وألف كلا... وهل تقدر القضبان على حجب خيوط الشمس... وهل تقدر ظلمة الزنزانة على إطفاء أنوارها... قالها لهم صريحة مدوية إثر النطق بالحكم يوم 6 جوان 2004: «انكم ترتكبون جريمة حرب تماما مثل طياري جيشكم الذين يلقون بالقنابل على المواطنين الفلسطينيين تماشيا مع قرارات الاحتلال... اذا كان ثمن حرية شعبي فقدان حريتي فأنا مستعد لدفع هذا الثمن». وفي سجن «هداريم» تبدأ ملحمة جديدة قادته ليحصل على الدكتوراه...ومن زنزانته يتواصل المدّ الثوري ليتحول الى بوصلة الثورة وحكيمها في زمن تلاطمت فيه الأمواج وضاعت البوصلات في مزادات السياسة والمصالح الانانية الضيقة... حيث كان الغائب الحاضر في «اتفاق القاهرة» بين الفصائل الفلسطينية وفي كل كبيرة وصغيرة تخص الوطن والقضية... ومن زنزانته في سجن «هداريم» اظهر للصهاينة كم هو حرّ حين أبلغ رسالته المدويّة الى المؤتمر الذي عقد حول الاسرى بالعاصمة الجزائرية... «وحّدوا الصفوف واعيدوا وحدة الوطن والقضية» كانت تلك رسالة الى أبناء وطنه الذين فرّقتهم المواقع ومزّقهم الانقسام ليختلفوا ويتصارعوا ويهنأ الاحتلال بضعفهم وهوانهم. من الأسير ومن الحرّ... ومن السجين ومن السجّان... انه هو مروان البرغوثي الحرّ في أسره... ساجن سجّانيه في زنازينهم... رجل قُد من معدن النضال الصافي في زمن عزّ فيه الرجال... ثائر في زمن صارت فيه الثورة تهمة... وتاهت فيه القضية بين مزادات السياسة وبين عجز ذوي القربى.