عشرات الضباط أمام المحكمة في تركيا ..من كان يجرؤ حتى على مجرد التفكير في ذلك قبل عشر سنوات، ناهيك عن عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان ذلك أن العسكرية في تركيا ليست كمثلها في الدول.. فالأتراك يحبون الجندية ويحترمون رجالها ويحتفلون بضابط متخرج أكثر مما يحتفلون بحامل دكتوراه .كان ذلك على مر تاريخهم الطويل.. وترسخ هذا الشعور في القرن العشرين وتحديدا بعد الحرب العالمية الأولى وانهزام السلطنة العثمانية وقيام الضابط مصطفى كمال بلملمة فلول العسكر العثماني وتحرير الأناضول وتأسيس الجمهورية الحالية في عام 1923... كان الجيش هو المنقذ من الضياع والمستعيد لكرامة الأتراك فلقبوا مصطفى كمال «أتاتورك» أي أب الأتراك ومنحوه أعلى الرتب وسار العسكر خاضعين لقيادته.. وعندما رحل أتاتورك أصبح الجيش هو المؤتمن على ارثه وعلى الاتاتوركية التي قامت على العلمانية بما تعنيه من إلغاء كل ارتباط بالإسلام ولغته وعلى تغيير الانتماء من الشرق الإسلامي إلى الغرب الأوروبي. ونص الدستور التركي صراحة على دور المؤسسة العسكرية في الحفاظ على هذا الإرث حتى ترسخ في الأذهان أن العسكرية هي من صلب العلمانية وسادت هيمنة «الثكنة» وغدا القائد العام للجيش هو الرئيس غير المعلن للدولة، أوامره تعاليم مقدسة...وعلى مدى ثلاثة أرباع قرن هيمنت القوات المسلحة التركية على الحياة السياسية في تركيا حيث وصل تعداد القوات المسلحة يزيد على مليون ،محتلا المرتبة الثانية في الحلف الأطلسي الذي انضمت إليه أنقرة عام 1952..بدأت هذه الهيمنة باستقلال الجيش عن القيادة السياسية بعد وفاة مصطفى كمال الذي كان يحمل رتبة ماريشال حيث أصبحت القوات المسلحة تأتمر بأوامر قائد الجيش وليس رئيس الدولة (كان آنذاك عصمت اينونو).. وتطور الأمر تدريجيا إلى السيطرة الكاملة على مقاليد الأمور، إما عن طريق فرض القيادات والسياسات أو عن طريق الحكم العسكري المباشر،كما أصبحت للقوات المسلحة قوة اقتصادية ضاربة عن طريق مؤسستين تابعتين لها وهما (صندوق جرايات القوات المسلحة) و(مؤسسة دعم القوات المسلحة). فللصندوق أكثر من ثلاثين شركة تشغل حوالي ثلاثين ألف شخص في مختلف القطاعات من صناعة السيارات إلى الأشغال العامة والصناعات الغذائية والتامين والسياحة مع بنك باسم الصندوق..ولل«مؤسسة» ثلاثون شركة أيضا تشغل 20 ألف عامل مختصة في مختلف الصناعات العسكرية قارب رقم معاملاتها السنوي مليارين ونصف مليار دولار.. ونفذ الجيش التركي أول انقلاباته عام 1960 واعدم بعض الساسة (أشهرهم رئيس الوزراء عدنان مندريس ووزيراه للخارجية والمالية) وسن دستورا جديدا قنن فيه استقلاليته عن مؤسسات الدولة والقيادة السياسية. وبعد محاولة انقلابية فاشلة عام 63 حدث انقلاب ثالث ابيض تولى خلاله الجيش فرض حكومة جديدة ثم انقلاب رابع عام 80 بحجة منع تنامي التيارين اليساري والديني. ولم يمهل الجيش حزب «الرفاه» الإسلامي بزعامة (نجم الدين اربكان) أكثر من عام في الحكم إذ نشر الدبابات في الشوارع في صيف 1997 مما دفع اربكان إلى الاستقالة وجرى منعه من ممارسة السياسة. كان ذلك آخر الانقلابات حيث تغيرت المعطيات الدولية بعد انهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة وتنامي طموح تركيا لدخول الاتحاد الأوروبي وسعيها للاستجابة لشروطه .تغيرت الظروف والمعطيات الداخلية والدولية وغير الحزب الإسلامي «الرفاه» اسمه إلى حزب «الفضيلة» الذي تمكن الجيش من منعه أيضا فتحول الاسم إلى حزب «العدالة والتنمية» وهو الذي يحكم منذ عام 2002 (بزعامة رجب الطيب اردوغان وعبد الله غول) وقد مارس بهدوء قضم سلطات الجيش داخل المؤسسات ومن أهمها (مجلس الأمن القومي) إضافة إلى الإنهاء العملي للحصانة التي منحها الجيش لنفسه على مدى عقود.وها هي حكومة العدالة والتنمية تصل هذه المرة الى إقناع القضاء باعتقال حوالي مائتي ضابط بتهمة التآمر لإحداث فوضى تبرر تدخل الجيش والقيام بانقلاب منذ عام 2003 أي سنة بعد نجاح الحزب في الانتخابات العامة..196 ضابطا فيهم جنرالات وأميرالات، قادة جيوش ،بعضهم متقاعد وبعضهم مازال في الخدمة يجري التحقيق معهم، ومن قبلهم حوالي 300 بين عسكريين ومدنيين من أعضاء شبكة مهمتها زرع الفوضى أيضا عرفت بشبكة «ارغينيكون» وهو اسم واد في آسيا الوسطى يعتبره الأتراك المهد التقليدي لأجدادهم الأوائل. إنها أول مرة يتم فيها إخضاع عسكريين للقضاء المدني ولسلطة الدولة في تركيا. قيل إن العسكريين المعتقلين أعطوا لخطتهم اسم «المطرقة»..ربما كان في ذهنهم أن الجيش التركي مازال هو المطرقة وليس فقط مطرقة القضاء المعروفة ولكن مطرقة فرض التوجه والسياسات والسياسيين ...فهل سيكون ما يجري الآن في اسطنبول نهاية «المطرقة» ذات النجوم والنياشين وتحولها إلى «سندان» يخضع لسلطة تحددها صناديق الاقتراع بمنجى من الدبابات؟