مع عودة التحكيم الأجنبي.. تعيينات حكام الجولة 5 "بلاي أوف" الرابطة الاولى    استقالة متحدثة من الخارجية الأميركية احتجاجا على حرب غزة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    «الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    حركة النهضة تصدر بيان هام..    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مات المقاوم أربكان وبقيت مدرسته الإصلاحية نبراسا منيرا
نشر في الحوار نت يوم 27 - 02 - 2011


إنا لله وإنا إليه راجعون...
الله وحده يعلم عمق حزني وصدقه على فقيد الأمة الإسلامية وصحوتها النهضوية الإصلاحية الديمقراطية المعاصرة المهندس المقاوم نجم الدين أربكان .. حزن يعبث بنياط القلوب ولكن لا أقول إلا ما يرضي الله سبحانه تأسيا بالحبيب محمد سيد المقاومين وأمير المصلحين صلى الله عليه وسلم وهو يواري فلذة كبده إبراهيم عليه السلام : „ إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا عليك لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لله وإنا إليه راجعون ".
هذا فضل المرحوم أربكان علي بعض المهجرين التونسيين.
ما إن تحركت كلاب الذيل المقطوع بن علي تنهش منا الأبدان وتنتهك الأعراض في حملة غير مسبوقة ضد الحركة الإسلامية التونسية في أواخر عام 1990 وبدايات عام 1991 حتى تحصن منا بالفرار والتخفي من أنجاه الله سبحانه من تلك الكلاب المسعورة و يمم كل واحد منا وجهه شطر الأرض يبحث له عن ملاذ آمن. كانت تركيا نصيبي من أرض الأمان برفقة ما يربو عن مائة من الإخوة وشاءت أقدار الله الغلابة أن نمضي هناك عاما كاملا يحضننا إخواننا من حزب الرفاه بزعامة المهندس المقاوم المرحوم نجم الدين أربكان وبقية مساعديه في ما يسمى بالتركية ( رفاه برتزي جنرال مركزي ) أي المركز العام لحزب الرفاه في أحد أكبر حي من أحياء العاصمة أنقرة. كان من بين أولئك الرجال الأفاضل الشيخ لطفي دوغان رئيس الكتلة النيابية لحزب الرفاه في البرلمان التركي والصديق العزيز ( بكير ) أحد شباب الحزب من الذين غمرونا بدفء روحي أخوي خالص لا شك أنه من مآثر المدرسة الروحية النقشبندية التي صاغت بعضا من خلال أولئك الرجال سيما بعد تلاقحها مع المدرسة النورسية التركية الشهيرة لصاحبها العلامة المجاهد المرحوم سعيد النورسي. ورجال أخر كثر لا يتسع لهم مقال لذكرهم منهم الصديق العزيز (حسن ديميريل ) ورجل الأعمال الشهير ( نجاتي إرلي ). تلك تجربة آليت على نفسي إن مد الله في العمر أن أضخ فيها ما بقي في من حرارة عاطفية عندما تخرج إلى النور صفحات من ذكريات التهجير والنفي ما ينبغي لها أن تطوى سيما بعد طي تونس وثورتها في يوم الثورة الأغر 14 يناير 2011 الذنب المبتور بن علي الذي كنا نخشى كلابه المسعورة ورب العزة سبحانه أن تنهش من تلتقط إسمه مذكورا في مقال أو مذكرات حتى بعد أن إمتدت محنة النفي وما أدراك ما محنة النفي إلى أروبا الإسلاموفوبية لمن لم يعرف صبابة الشوق إلى أطلال الصبا ومهد الدعوة الأول لأزيد من عقدين كاملين.
كيف إستقبلنا المرحوم أربكان وكيف ودعنا.
كلفني الشيخ راشد يومها برعاية مصالح إخواني في تركيا والحقيقة أن من لم يتعرف إلى حزب الرفاه بقياداته وسائر أبنائه على أرض الخلافة المجهضة بأنياب الذئب المختال مصطفى كمال لا يمكنه أن يتصور ما يكنه رجال الحزب كلهم دون أي إستثناء للشيخ الغنوشي. يظن بعض المتابعين والمهتمين ممن يحلو لهم تقلد منصب لا يحرسه حارس (خبير في الحركات الإسلامية) أن علاقة الشيخ راشد بالحركة الإسلامية التركية ( تجربة المرحوم أربكان بسائر ما تقلدته من أسماء حزبية ) هي علاقة فكرية لا تتعدى الإفادة من التراث الفكري للشيخ الغنوشي الذي ترجم كله تقريبا إلى اللغة التركية. ليس ذلك سوى رجع الصدى الذي يحدثه قرع التجربة الإسلامية الإصلاحية التركية المعاصرة من حصيف أريب يحفر في المؤسسات الفكرية لتلك التجربة. أما العلاقة الحميمية تدفنها الصدور وتبوح به الألسنة والأقلام فلا يقدرها حق قدرها سوى من ساقته أقدار الرحمان الغلابة إلى معقل تلك التجربة ثم إصطلى بنار الحب ورشف عقيق التراحم الأخوي الصادق مع طلاب ( إلهيات فكلتازي ) أي كلية الإلهيات أو كلية الشريعة بالتعبير السائد وحسبك بتلك التسمية أثرا دميما من آثار التصحير الأتاتوركي المدمر.
إستقبلنا المقاوم المرحوم أربكان في مكتبه مرتين أو ثلاث على ما أذكر وكان ذلك برفقة الأخ العزيز ورفيق الدرب الصدوق الأستاذ محسن الزمزمي أكثرنا لا يعرفه سوى بصفته الفنية منتجا وملحنا و رجل عود شهد له الفنانون الأتراك بأنقرة في تلك المدة 1992 بالمهارة الذوقية الراقية ولكن شخصيته الكتومة الصامتة تخفي ما لا يعلمه سواي من رقة عاطفية تنكسر عليها صخرات المحن الشديدة و مثابرة دائبة على طلب العلم في تواضع جم و شغف باللغات الأجنبية ومنها اللغة التركية التي أجيز فيها رسميا وشعبيا حتى إنه كان لا يقوى منا على حسن الفهم سواه .
إستقبلنا المقاوم المرحوم أربكان وكنت أحدثه باللغة العربية ظنا مني أن الأخ العزيز محسن سيترجم له كلامي إلى التركية ولكني فهمت بعد هنيهة قصيرة أن الرجل عليه رحمة الله سبحانه يفهم العربية فهما جيدا ولم يحتج إلى الترجمة إلا عندما تفاعل مع كلامي. كانت تلك مفاجأة من مفاجآت المرحوم. مفاجأة عقدت للرجل في قلبي مضغة أخرى من مضغات حبي له وتقديري لكسبه وجهاده.
في ظلال فضله الوارفة.
هي أفضال أجراها سبحانه صاحب الفضل الأول والأكبر والأعظم على يدي ذلك الرجل الكبير والمقاوم العظيم. إستقبلنا الرجل الذي يعد نفسه في تلك الأيام لرئاسة الحكومة التركية ضمن تحالف إسلامي عالماني .. إستقبلنا في مكتبه ببشاشة وتواضع وكرم ثم كلف أحد مساعديه برلماني عن منطقة تشنكري وهي المنطقة التي سأنقل إليها برفقة الصديق العزيز محسن الزمزمي بعد ذلك بشهور منفيين بعقوبة الإقامة الجبرية لصلتنا بحزب الرفاه وزعيمه الراحل أربكان .. كلف ذلك البرلماني برعاية جماعة الغنوشي أو أولاد الغنوشي وهو الإسم المفضل لقيادات وأبناء حزب الرفاه في تلك الأيام عندما يتحدثون عنا.
هذه شهادتي لله وللتاريخ : أي أنصار كانوا لنا.
ذلك هو ما وقر في فؤادي من أول يوم وطأت فيه قدماي أرض الخلافة العثمانية. وقر في فؤادي أن هؤلاء الإخوان الذين آوونا وإحتضنونا من حزب الرفاه هم الأنصار. أجل. ورب الكعبة. هم الأنصار الذين تحدث عنهم الكتاب العزيز. أجل. والذي نفسي بيده. هم الأنصار الذين آثرونا على أنفسهم يحبون من هاجر إليهم. خصص لنا المرحوم أربكان بمنطقة من مناطق العاصمة أنقرة تسمى ( سنجان ) دكانا للمواد الغذائية ( هو دكان العم أحمد الذي أنكح إبنته أحد إخواننا ولم يكن هو الوحيد منا ممن وجد في بيوت حزب الرفاه بقيادة المرحوم أربكان منكحا صالحا طيبا مباركا ). كما خصص لنا مآوي نسكنها. أي أنصار هم؟ أي أنصار هؤلاء الذين ينكحونك بناتهم وأي أنصار هم هؤلاء الذين يتكفلون بعيشك ونزلك لمدة ناهزت عامين تقريبا في الجملة؟
وبمثل ذلك الكرم التركي الذي يخجل الكرم العربي ودعنا المرحوم.
هناك أمر ما ينبغي إهماله في هذا السياق. أمر لا تفضه المناظرات الفكرية ولكن تتلمظ بصبابات حبه ما عايشناه حقيقة فوق الأرض. لم يكن أولئك الأنصار سوى قوما آخرين من غير قومنا العرب. كانوا أتراكا. مفعول القوميات اليوم بمثل ما أشاهد في أروبا مفعول غائر كثيرا ما يحفر خنادق سحيقة بين أبناء الحركة الإسلامية الواحدة ( حركة الإخوان المسلمين مثلا في أروبا عندما تحتدم عمليات إنتخابية أو سوء تفاهمات بين مشارقة ومغاربة أو غير
ذلك مما يشغب به الشيطان ). ما شعرنا به في تركيا من آثار أخوية خالصة صادقة حميمية لا يحيط به لسان ولا يرسمه بيان ولكن تحتفظ به قلوبنا وفاء إلى إخواننا هناك. إخواننا في الإسلام فحسب وليسوا إخواننا لا في قومية عربية ولا في لسان عربي. تلك من نعم الإسلام علينا ونعم الإسلام مغداقة ومورقة كثيرة ولا يشعر بها سوى العاملون للإسلام أما العاملون به فحسبهم لوك تلك النعم بألسنة نظرية أو أقلام تحسن الحجاج.
ودعنا الراحل المقاوم أربكان عليه رحمة الله سبحانه بأن سلمني يدا بيد مقدارا ماليا بالدولار الأمريكي بما يكفي لبلوغ كل واحد منا وعددنا يربو عن مائة أي بلد أروبي بحثا عن مكان جديد آمن بعدما عقدت وزارة الداخلية التركية ( مصلحة الأمنيات ) إتفاقا كتابيا مع الحكومة التونسية يقضي بتبادل الفارين من حركة النهضة التونسية الذين آوتهم تركيا بالفارين من الحزب الكردي المعروف ( ب ك ك ) بزعامة عبد الله أوجلان ممن آوتهم تونس. لا زلت أحتفظ بتلك المعاهدة في نسختها الأصلية التي أمدت بها وزارة الداخلية التركية عام 1992 فرع منظمة المفوضية العليا للاجئين ( هاش سي آر التابعة لمنظمة الأمم المتحدة ) بأنقرة في ضاحية تشنكايا من العاصمة التركية. ما إن وصلت معاهدة الإثم والغدر السيدة ( إيفلين ) وهي المسؤولة عن الملف التونسي في المنظمة ( فرع تركيا ) حتى هاتفتني في وقت خارج زمن العمل الإداري حيث أذكر أن الشمس يومها توشك على المغيب. طلبت إلي السيدة بل هي صديقة حميمة وصاحبة فضل علينا في تركيا وهي قاضية فرنسية لن أزال أدعو لها بخير ما يدعو مسلم لغير مسلم أن يشرح الله سبحانه قلبها للإسلام طلبت إلي القدوم إليها دون تأخير لأمر وصفته في الهاتف بالخطير ولا يتناسب شرحه على الأثير. وهل كان للذنب المبتور بن علي من مشروع في حياته سوى مشروع إستجلاب الفارين من أنياب كلابه من أبناء حركة النهضة؟
ما إن علم المقاوم أربكان بالأمر حتى زودني بالمال الكافي لرحيل كل واحد منا إلى أروبا وفعلا وزعت المبلغ على إخواني وإلتحقنا على دفعات متتالية بأوربا إلا قليلا منا ممن إختار طريقا آخر.
لم يقتصر الأمر على المال وكفالة المعيشة والأمن بل تعداه إلى مساعدات أخرى كثيرة تيسيرا لمتطلبات الإقامة أو الرحيل وهو الأمر الذي حرك ضغائن الحكومة الأتاتوركية العسكرية التي تتربص الدوائر بالمرحوم وحركته الإسلامية الديمقراطية. ذلك حقل آخر ربما تحتضنه ورقات مذكراتي. كانت تلك المساعدات سببا لأعتقالي برفقة الصديق العزيز محسن الزمزمي مرات في مصلحة الأمنيات بأنقرة.
ما لقيته من تعذيب بدني شديد القسوة على أيدي جلاوزة النظام العسكري الأتاتوركي المنهار يختلف في النوع عما لاقيته من نظام بورقيبة ولكني أشهد الله أن أحب أرض إلي بعد تونس هي تركيا. هناك خلفت أصدقاء ترجح محبتهم في قلبي بأملاك الأرض أضعافا مضاعفة منهم أحد طلبة كلية الإلهيات في ذلك الزمن إسمه : مهمت تشاكرطاش من ولاية سيواس التركية.
أربكان مدرسة في الإصلاح الإسلامي المعاصر.
كثيرا ما يردد المرحوم أربكان كلمة وكذا مساعدوه وأبناء الحزب عامة قد يساء فهمها منا. كثيرا ما يحرصون على تأكيد أن الخلافة الإسلامية التي أجهضت في تركيا لا بد لها أن تستأنف سيرها من الأرض ذاتها التي وئدت فيها. إذا حوكمت الكلمة بعين عربية ألقت بظلال غير محببة ولكن الكلمة في التجربة التركية الإسلامية المعاصرة خزان شحن معنوي وتعبوي يمد المناضلين هناك بالمثابرة والأمل واليقين. ومثل ذلك ما كنا نستهجنه في الأيام الأولى عندما يقدم الأتراك على تقبيل أيدي الأكابر فيهم من مثل تقبيل كل رجال الحزب وأبنائه أيدي الزعيم الراحل أربكان. ذلك من وحي التجارب التي أغدقت بها منحة النفي. عادات وتقاليد وأعراف يستهجنها المرء لعدم إلفها في أرضه وصباه وليس لسلطان صولجان لا يقاوم بمثل مايتوفر لسلطان الإلف والعادة. المغاربة المغرب الأقصى يقبلون أيدي آبائهم وأمهاتهم وكذا أيدي الأئمة يسمونهم فقهاء . للسياحة في الأرض منافع لا تكاد تحصى وعلى ذلك يحمل وصف القرآن المؤمنين بالسائحين مراكمة لتجارب البشرية وإستيعابا لعاداتها وتقاليدها وأعرافها نسجا لأواصر التعارف بينها وليس التعارف في الإسلام سوى أقصد مقاصده.
أربكان هو أبو الثورة التركية المعاصرة.
صحيح أن تونس هي أول من ثارت ضد الذيل المقطوع بن علي في 14 يناير 2011. صحيح أن التونسيين هم أول من فتح هذا الباب الإصلاحي الذي ظن المحللون والسياسيون والمصلحون أن آخر حلقة فيه كانت الحلقة الإيرانية بل عزموا عزما ولم يكن مجرد ظن إلا قليلا منهم الشيخ الغنوشي الذي ظل شهادة لله وللتاريخ أيضا يلتزم فكرة لم يحد عنها قيد أنملة في عز إنتصاب سلطان الذيل المقطوع بن علي على دواليب الدولة والبلاد بالحديد والنار وعلى إمتداد عقدين كاملين هما سنوات الجمر الحامية اللاظية حقا. ظل الشيخ الغنوشي في مؤسسات الحركة و اللقاءات مع أبنائها في المهجر يؤكد أن الثورة الشعبية في تونس أمر ممكن ومتاح وأن كل ما يحدث من حماقات للذيل المقطوع بن علي تحت سقف صمت مريب ومخجل من قوى كثيرة في الداخل والخارج.. كل ذلك إنما يؤكد الثورة ولا يلغيها. شهادة لله وللتاريخ أن الرجل ظل ثابتا على تلك الفكرة رغم المعارضة الواسعة جدا من حوله.معارضة إتخذ بعضها طريقا آخر بعد أن أخفق في بث الريبة في فكرة الثورة عند الغنوشي.
ولكن الأصح من كل ذلك هو أن المرحلة الحضارية الجديدة التي تدشنها الأمة اليوم بالثورات المتتالية من تونس إلى مصر ومن اليمن إلى ليبيا ومن البحرين إلى الأردن .. الأصح من ذلك أن المرحلة الحضارية الجديدة وهي مفارقة في تجلياتها الأولى وإرهاصاتها البادية لعهد ما قبل 14 يناير 2011 تلك المرحلة الحضارية الجديدة إنما دشنها الأتراك عن طريق حزب العدالة والتنمية بزعامة المصلح التركي المسلم الكبير رجب الطيب أردوغان قبل سنوات قليلات منصرمات عندما أجهز بثورته الديمقراطية على آخر معاقل العسكرية التركية وآخر فلول الأتاتوركية العالمانية المتطرفة. ذلك هو رأيي في الأمر : بدأت تركيا بزعامة بطلها القومي أردوغان تدشين مرحلة حضارية إسلامية جديدة ثم زكتها غزة الصامدة الجريحة وهي تنهض حية صابرة من بعد ما ظن الصهاينة وحلفاؤهم عربا وعجما أن ما صب عليها من حمم لاظية مستعرة من السماء بالسلاح الجرثومي الكيميائي المحرم دوليا كفيل بدفنها حية. ثم جاءت ثورة تونس فمصر واليوم نرقب على أحر من جمر اللظى رحيل السفاح المجرم القذافي. لا يغرنك أن الثورات العربية ( تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها ) كانت في ثوب جماهيري شعبي صائل يملأ الشوارع معتصما وباذلا الشهداء صفا من وراء صف بينما كانت ثورة تركيا من طينة أخرى وفي ثوب آخر. لا يغرنك ذلك لأن العبرة في كل ثورة بنتائجها وحصائلها وليس في أثوابها وأشكالها. ما حدث في تركيا قبل سنوات قليلات لم يكن سوى ثورة إصلاحية تغييرية جذرية حقيقية ولكنها ثورة نسجت خيوطها بأمصال أخرى. أمصال تتناسب مع الحالة العسكرية المهيمنة دستورا وواقعا ومع الحالة العالمانية المتطرفة جدا. أين تصنف ثورة غزة إذن؟ ما حدث في غزة كذلك بعد ذلك هو ثورة ولكنها ثورة تختلف عن ثورة تركيا وعن الثورات العربية الراهنة. محصلة الثورات الثلاث : تركيا وغزة والعرب هي : إستنبات الفسيلة الأولى للحرية والديمقراطية والعدالة لتكون الدولة خادمة للمجتمع.
إذا كان ذلك كذلك فإن أبا الثورة التركية المعاصرة هو المقاوم المرحوم أربكان. أربكان هو أول من إهتدى إلى أن مقاومة الدكتاتورية العسكرية التركية وهي تحمي العالمانية الأتاتوركية المتطرفة في شعب مسلم أبا عن جد بل في أرض إحتضنت الخلافة الإسلامية رمز الوحدة السياسية للأمة الإسلامية .. أربكان هو أول من إهتدى إلى أن مقاومة ذلك لا يكون إلا بحركة إسلامية وطنية شعبية ديمقراطية. إتخاذ السبيل الديمقراطي من لدن إسلامي في زماننا هذا بل في زمن أربكان قبل نصف قرن كامل ليس بضاعة معروضة في الأسواق تقتنيها بمالك.
لم يعكف أربكان ومساعدوه في الحزب على ما عكف عليه العرب من توسع كبير جدا وهو مفيد وضروري دون ريب في التنظير الديمقراطي من منطلق إسلامي. ولكنهم عكفوا على إرساء ذلك عملا فوق الأرض ومؤسسات حزبية وغير حزبية. ما إن تشبعوا بالفكرة الديمقراطية لمقاومة الدكتاتورية العسكرية والعالمانية الأتاتوركية المتطرفة حتى شغلوا أنفسهم بتنزيل ذلك وتركيا اليوم مدينة دون أي ريب لصواب ذلك الإجتهاد السياسي والفكري السديد.
ضمن ذلك الإطار التاريخي يمكن لكل منصف أن يفهم تداول مصالح وحاجات التغيير الإسلامي الثوري الكبير بين مختلف أجيال الحركة الإسلامية التركية المعاصرة بزعامة تاريخية للمرحوم أربكان.
عندما كانت فكرة الإصلاح الديمقراطي الأربكانية تستبد بالرجل كان أيسر شيء عنده تغيير الأسماء والألقاب للأوعية الحزبية. ذلك مستوى راق جدا من الوعي الحضاري الحصيف قليلا ما يرقى إليه المصلحون. لا أعرف رجلا في الساحة الإسلامية المعاصرة يرتقي إلى ذلك من موقع الفعل بعد المرحوم أربكان غير الدكتور الترابي.
لك أن تقدر النقلات النوعية التي عبرتها الأمة التركية من بعد فوز أردوغان وحزبه.. ثم لك من بعد ذلك أن تدرك أي فضل أجراه سبحانه على أيدي المرحوم أربكان. نقلات تجاوزت الأمة التركية إلى الأمة العربية والإسلامية. ما يقدم عليه أردوغان اليوم من محاولة بناء سوق إسلامية مشتركة لمواجهة التحديات النقدية والمالية الدولية هو ما أقدم عليه أستاذه المرحوم أربكان وهو الأمر المباشر الذي عجل بالإنقلاب عليه تحريشا من الدوائر الغربية والصهيونية النافذة. الخلاف الوحيد هو : الوقت غير الوقت.
عندما يجمع الرجل بين المهارة التقنية والذكاء السياسي.
المرحوم من مواليد 1926 وعرف بتفوقه الدراسي ونبوغه العلمي وهو ما رشحه لأن يكون مبعوث النظام المدرسي التركي إلى ألمانيا ( مدينة آخن وهي المدينة ذاتها التي فر منها الملك الأروبي شارلمان لما وصلته هدية هارون الرشيد ظنا منه أن الهدية حيوانا مفترسا ولم تكن الهدية سوى ساعة رملية مازالت تحتفظ بها ألمانيا عربون وفاء للحضارة الإسلامية قوامها العلم والبحث والحرية ). واصل المرحوم نبوغه العلمي حتى توصل إلى تصميم دبابة فما إن عاد إلى وطنه تركيا حتى نذر نفسه لمقاومة الجرثومة التي تحيق بالأمة التركية : الشمولية العسكرية الحامية لعالمانية أتاتوركية متطرفة على أنقاض خلافة إسلامية. ربما كان ذلك سببا من أسباب عزوف المرحوم ومساعديه على التوسع في التنظير الفكري تفرغا للعمل المثمر. لا يصدر الرجل عليه رحمة الله سبحانه عن خيالات فلسفية أو أحلام رومانسية ولكنه سليل محمد الفاتح الفاتح الذي بشر به محمد عليه الصلاة والسلام بفتح مدينة هرقل الرومانية من جانب وسليل عقل رياضي صارم ( هندسة ميكانيكية ) من جانب آخر وسليل طريقة نقشبندية موصولة بإرث نورسي من جانب ثالث. هذا الجانب الثالث يفسر توازن التجربة الأربكانية بين الصفاء الروحي الكفيل بتوفير الإكسير اللازم لليقين والأمل والثبات على لأولاء الطريق ووعثائه وبين مقتضيات التخطيط والنظر والتقلب بين أكثر من تجربة وإسم ومسمى دون تضييع بوصلة المقاصد العليا : توفير الحرية والكرامة والعدالية للأتراك.
عندما تدرك أن القانون التركي الأتاتوركي الآثم يجرم مجرد ذكر كلمة الإسلام أو الدين أو غير ذلك سيما من أحد أتباع أو قواد الحركة الإسلامية .. عندها تدرك أن الرجل وأعوانه كانوا يسيرون على الألغام حفاة عراة.
كنت ذات ليلة برفقة أخي العزيز محسن الزمزمي ضمن حشد جماهيري كبير في أثناء حملة إنتخابية في المدينة التي حكم علينا فيها بالإقامة الجبرية ( تشنكري ).كان البرلماني من حزب الرفاه يتكلم وفجأة زل لسانه بذكر كلمة دين أو إسلام..زلة صغيرة جدا ربما لا يلتقطها سوى من ركز كل إنتباهه على الكلمات بل على مخارج الحروف وصفاتها.. للتو إلتقطت المخابرات العسكرية الأتاتوركية العالمانية المتطرفة الكلمة وصعدت بها وسلطت على الرجل عقوبة مناسبة.
أن تظل محروما من مجرد التعبير عن آمالك وأشواقك وآلامك بعدد من الكلمات التي هي الأحب إلى قلبك وهي روح هويتك .. أن تظل كذلك وأنت زعيم تلتقي الجماهير وتحمل رسالتها.. أن تظل كذلك عقودا طويلة دون أن يزل لسانك بكلمة واحدة.. ليس ذلك من قبيل نزهات جميلة.. لا. تلك معاناة ذلك الجيل الأربكاني.
حقيق بالأجيال الجديدة حقيق بالخلف أن تحفظ لسلفها حقه. ألم يعلمنا الكتاب العزيز ذلك خوفا علينا أن يستبد بنا الغرور فنظن أن الفتوحات المعاصرة والثورات الهادرة إنما أينعت صدفة على أيدينا نحن. سل نفسك من أمك البيولوجية لتلفى أن لك أما أخرى هي أمك الفكرية والروحية والثقافية. علمنا الكتاب العزيز ذلك أن نخطئ في حق من سبقنا من كل تجربة فاشلة أو ناجحة إذ لا يتعلم الناجح إلا من إخفاق من بعده إخفاق. علمنا الكتاب العزيز ذلك وقال داعيا : „ ربنا إغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا".
دعوة إلى تخليد آثار هذا المصلح الكبير.
لم يخلف الراحل أربكان عليه رحمة الله سبحانه آثارا مؤلفة أو بحوثا ودراسات وكتبا تعرف الناس به من بعده. مثله في ذلك تقريبا هو مثل الشهيد البنا عليه رحمة الله سبحانه كلاهما لم يتفرغ للكتابة ولكن تفرغ لأمر آخر أحسن تسميته الشهيد سيد قطب عندما قال عن الإمام الشهيد النبا أنه : يحسن البناء أو حسن البناء أي يحسن بناء الرجال. لم يخلف البنا ما تقرؤه اليوم إلا قليلا جدا ولكنه خلف تجربة وأثرا ورجالا ومؤسسات لازالت تقود قاطرة الإصلاح الإسلامي بعد زهاء عقد كامل من تجربة الرجل. كذلك الأمر عند المصلح الكبير الراحل أربكان. لم يكتب ولم يؤلف ولكنه أنشأ تجربة بل مدرسة في الإصلاح الإسلامي وخلف رجالا ومؤسسات. من أروع ما إطلعت على تجاربه في تركيا مؤسسة إسمها ( شباب الرفاه ) تحتل بناية ضخمة كبيرة في قلب العاصمة أنقرة. مؤسسة لها مئات الفروع في أنحاء تركيا وتضم إليها شباب الحزب الذي تقوم على توحيد صفوفه ورعايته فكريا وتربويا وحركيا وماليا وخدميا وتيسيرا للتعارف. من المشاريع الأخرى التي إسترعت إنتباهي يومها كذلك عكوف بعض المثقفين ممن يحسنون اللغة العربية وهم كثر في الحزب على إعادة الإعتبار للحرف العربي ومن المؤسسات التي تقوم على إستعادة الحرف العربي وترجمة المؤلفات التركية بالحرف اللاتيني الذي فرضه مصطفى كمال : مركز للتربية والثقافة بالعاصمة أنقرة في الحي ذاته الذي يوجد به المقر الرئيس لحزب الرفاه ويقوم على المشروع الشيخ علي الذي كان يروي لنا بعضا من معاناة المسلمين الأتراك في أيام التغول الأتاتوركي الغاشم.
وفاء للمدرسة الإسلامية الإصلاحية الديمقراطية المعاصرة التي أرسى دعائمها الراحل المرحوم أربكان .. وفاء لكسب الرجل وعطائه وجهاده ومقاومته لأجل أن تنعتق تركيا من الإستبداد العسكري الشمولي الذي يفرض العالمانية الأتاتوركية المتطرفة بالحديد والنار والإنقلابات العسكرية ضد صناديق الإقتراع ..وفاء لتاريخ الرجل فإنه ينبغي للرئيس التركي ولوزيره الأول أو رئيس حكومته وكلاهما تلميذ للمرحوم أربكان أن يستنبطا ما به يخلدان ذكرى مؤسس تركيا الإسلامية الحديثة.
هو وفاء واجب علينا جميعا وليس مقصورا على الأتراك. هذه تجربة كان لها فضلها الأكبر في التراث المعاصر للحركة الإسلامية. إذا تم الوعي بضرورة وحيوية تخليد كسب هذا الرجل الكبير عليه رحمة الله سبحانه فإن وسائل تخليد ذلك بحسبانه كسبا من كسوب الأمة ونهضتها الإسلامية الديمقراطية المعاصرة .. الوسائل المناسبة لذلك محل إجتهاد.
المقصد الأسنى من ذلك تنوير الخلف بكسب السلف وإعادة الإعتبار للتجارب الإصلاحية الإسلامية الناجحة.
رجائي من كل منصف ألا نكون حولا عورا نطبل حول ثورتنا فنثمل غرورا متجاهلين أن الثورات كلها دون إستثناء بعضها من رحم بعض. لن يخلد أحد ثورتنا إذا نحن تجاهلنا ثورات سبقتنا. ذلك قانون إجتماعي حضاري تاريخي مطرد.
سبحان الحي الذي لا يموت.
اللهم إرحم عبدك نجم الدين فإنه قادم عليك بفقره إليك.
اللهم أخلفنا فيه خيرا وأجزل له الثواب والأجر والعطاء لما أرغمت به أنوف العالمانية الأتاتوركية المتطرفة في الأرض التي بشر بها حبيبك محمد عليه الصلاةو السلام أن تفتح قبل رومية.
آمين آمين آمين.

الهادي بريك ألمانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.