مع الشروق .. قمّة بكين ... وبداية تشكّل نظام دولي جديد    انطلاقا من غرة جوان: 43 د السعر الأقصى للكلغ الواحد من لحم الضأن    رئيس الحكومة يستقبل المدير العام للمجمع السعودي "أكوا باور"    توقيع مذكرة تفاهم تونسية سعودية لتطوير مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس    شهداء وجرحى في قصف لقوات الاحتلال على مدينة غزة..    بطاقتا إيداع بالسجن ضد أجنبيين تورّطا في تنظيم عمليات دخول أفارقة لتونس بطرق غير نظامية    بداية من اليوم: خدمة جديدة للمنخرطين بال'كنام' والحاصلين على الهوية الرقمية    صفاقس: إيقاف 21 افريقيا وصاحب منزل أثر معركة بالاسلحة البيضاء    جنيف: وزير الصحة يؤكد أهمية تعزيز قدرات الدول الإفريقية في مجال تصنيع اللّقاحات    عاجل/ هذا ما قرّرته 'الفيفا' بشأن المكتب الجامعي الحالي    وزارة الصناعة: توقيع اتفاقية تعاون بين أعضاء شبكة المؤسسات الأوروبية "EEN Tunisie"    مفقودة منذ سنتين: الصيادلة يدعون لتوفير أدوية الإقلاع عن التدخين    كلاسيكو شوط بشوط وهدف قاتل    أول تعليق من نيللي كريم بعد الانفصال عن هشام عاشور    بالفيديو: بطل عالم تونسي ''يحرق'' من اليونان الى إيطاليا    مراسم استقبال رسمية على شرف رئيس الجمهورية وحرمه بمناسبة زيارة الدولة التي يؤديها إلى الصين (فيديو)    عاجل/ فرنسا: إحباط مخطّط لمهاجمة فعاليات كرة قدم خلال الأولمبياد    وزارة المرأة تحذّر مؤسسات الطفولة من استغلال الأطفال في 'الشعوذة الثقافية'    بن عروس: حجز أجهزة اتصالات الكترونيّة تستعمل في الغشّ في الامتحانات    بطاقة إيداع بالسجن ضدّ منذر الونيسي    مجلس نواب الشعب: جلسة استماع حول مقترح قانون الفنان والمهن الفنية    رئيس لجنة الفلاحة يؤكد إمكانية زراعة 100 ألف هكتار في الجنوب التونسي    المنتخب الوطني يشرع اليوم في التحضيرات إستعدادا لتصفيات كأس العالم 2026    النادي الصفاقسي في ضيافة الاتحاد الرياضي المنستيري    الرئيس الصيني يقيم استقبالا خاصا للرئيس قيس سعيّد    قبلي : تنظيم اجتماع تشاوري حول مستجدات القطاع الثقافي وآفاق المرحلة القادمة    وزير التعليم العالي: نحو التقليص من الشعب ذات الآفاق التشغيلية المحدودة    عاجل/ حريق ثاني في حقل قمح بجندوبة    مستشفى الحبيب ثامر: لجنة مكافحة التدخين تنجح في مساعدة 70% من الوافدين عليها على الإقلاع عن التدخين    منظمة الصحة العالمية تمنح وزير التعليم العالي التونسي ميدالية جائزة مكافحة التدخين لسنة 2024    صفاقس: وفاة امرأتين وإصابة 11 راكبا في اصطدام حافلة ليبية بشاحنة    تطاوين: البنك التونسي للتضامن يقرّ جملة من التمويلات الخصوصية لفائدة فلاحي الجهة    بمشاركة اكثر من 300 مؤسسة:تونس وتركيا تنظمان بإسطنبول أول منتدى للتعاون.    رولان غاروس: إسكندر المنصوري يتأهل الى الدور الثاني لمسابقة الزوجي    الشايبي يُشرف على افتتاح موسم الأنشطة الدّينية بمقام سيدي بالحسن الشّاذلي    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 2 جوان    آخر مستجدات قضية عمر العبيدي..    الانتقال الطاقي: مشروع للضخ بقدرة 400 ميغاواط    انتخاب التونسي صالح الهمامي عضوا بلجنة المعايير الصحية لحيوانات اليابسة بالمنظمة العالمية للصحة الحيوانية    رولان غاروس: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة 34 عالميا    حادث مروع بين حافلة ليبية وشاحنة في صفاقس..وهذه حصيلة الضحايا..#خبر_عاجل    بعد الظهر: أمطار ستشمل هذه المناطق    جبنيانة: الإطاحة بعصابة تساعد الأجانب على الإقامة غير الشرعية    الرابطة المحترفة الأولى: مرحلة تفادي النزول – الجولة 13: مباراة مصيرية لنجم المتلوي ومستقبل سليمان    الأوروغوياني كافاني يعلن اعتزاله اللعب دوليا    عاجل/بعد سوسة: رجة أرضية ثانية بهذه المنطقة..    إلغاء بقية برنامج زيارة الصحفي وائل الدحدوح إلى تونس    تونس والجزائر توقعان اتفاقية للتهيئة السياحية في ظلّ مشاركة تونسية هامّة في صالون السياحة والأسفار بالجزائر    بنزرت: الرواية الحقيقية لوفاة طبيب على يدي ابنه    الإعلان عن تنظيم الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية من 23 إلى 30 نوفمبر 2024    منبر الجمعة .. لا يدخل الجنة قاطع صلة الرحم !    مواطن التيسير في أداء مناسك الحج    من أبرز سمات المجتمع المسلم .. التكافل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات    شقيقة كيم: "بالونات القمامة" هدايا صادقة للكوريين الجنوبيين    محكمة موسكو تصدر قرارا بشأن المتهمين بهجوم "كروكوس" الإرهابي    مدينة الثقافة.. بيت الرواية يحتفي ب "أحبها بلا ذاكرة"    الدورة السابعة للمهرجان الدولي لفن السيرك وفنون الشارع .. فنانون من 11 بلدا يجوبون 10 ولايات    عندك فكرة ...علاش سمي ''عيد الأضحى'' بهذا الاسم ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحقيقة التونسية و«مسلسل الجزيرة»
نشر في الشروق يوم 31 - 12 - 2010

ولنبدأ من هنا إذ يبقى الحدث الحقيقي في زحمة الأحداث التي عشنا على وقعها في الأيام الأخيرة هو كلمة الرئيس زين العابدين بن علي التي خاطب فيها الشعب التونسي معبّرا عن تعاطفه مع مشاغل أبنائه من الشباب وتفهّمه لمنطلقات الأحداث دون القبول بالمنحى الذي انحرفت إليه وتأكيده انحيازه الثابت والموصول للتطلعات المشروعة لكل التونسيين ومذكّرا ببرامج الدولة الجارية والإضافية لمزيد من التنمية ومزيد من جودة الحياة ومزيد من خلق مواطن الشغل.
ولكنه كذلك أكّد على الثوابت التي هي من جوهر قيم الجمهورية ومن شروط الديمقراطية ومن مقومات السلوك المدني القويم ومن أصالة الشخصية التونسية المعتدلة ذلك أنّ المشاغل لا تفض إلا بالتفكير المتأني الرصين وأن اختلاف وجهات النظر لا يعالج إلا في إطار الحوار الحر المسؤول وأن العنف والتطرّف والانفلات والتهوّر صفات دخيلة علينا لا هي مجدية ولا هي مقبولة.
ولقد جاءت تلك الكلمة البليغة مبرزة لأسس النظام السياسي التونسي نظام في خدمة الشعب ينصت إليه وقد كان رئيس الدولة واضحا في دعوته للاداره حتى تحسن التواصل مع سائر أفراده وخصوصا شبابه يتبنى تطلعاته ويحمل همومه ويجتهد في إيجاد الحلول العاجلة والناجعة للمشاكل الطبيعية التي يعيشها كل شعب قليل الامكانيات كثير الطموحات متفتح على الكون المعولم بواقعه الجديد الذي يوفر للشعوب الفرص بقدر ما يحمل لها المشاكل. كل ذلك في كنف دولة القانون والمؤسسات التي بدون حزمها وبدون احترامنا لها وللضابطة المدنية التي تقوم عليها لا تستقيم حياتنا ولا يستقر مجتمعنا ولا يطيب بالتالي عيشنا.
وطبيعي أن يطمح كل تونسي إلى أكثر من مجرّد العيش، إلى التمتع بجودة الحياة. جودة الحياة التي تحتل بلادنا المراتب الأولى في بلوغها عربيا وافريقيا، قبل عديد البلدان البترو دولارية التي لا يعرف القائمون عليها أين يخزنون أموالهم ويستأجرون الخبراء «الأنقلوساكسون» بملايين الدولارات ليشيروا عليهم بأيسر الطرق «لتبديد ثرواتهم».
هؤلاء «الأنقلوساكسون» الذين قاموا أخيرا بدراسة حول جودة الحياة في عواصم العالم فرتّبوا العاصمة تونس قبل العاصمة نيويورك.
ولكن هذا موضوع آخر وموضوعنا الرّاهن يتعلّق بشباب يبحث عن الشغل ضاق ذرعا من الانتظار فانقضّت عليه زبانية التوظيف السياسوي ليدفعوا به نحو الانتحار جسديا ومعنويا فالبطالة معضلة يقرّ بوجودها النظام التونسي ولا أحد يدّعي الكمال في هذا المجال. هذا هو التحدّي، التحدّي الذي من خلاله ينقلب النجاح مشكلا. فعدد خريجي التعليم العالي كان قبل تحوّل السابع من نوفمبر لا يصل إلى عشرة آلاف سنويا وهاهو اليوم يصل إلى ثمانين ألفا. إنه عنوان نجاح سياسة تربوية اختارت منظومة تعليم عال مفتوحة للجميع ودليل اختيار الحل الصّعب الذي يضمن حق كل حاملي الباكالوريا في مواصلة تعليمهم الجامعي متحمّلا تبعات هذا الخيار الذي تعرف كل اقتصاديات العالم مهما كانت عريقة وقوية أنه سيصطدم في نهاية المطاف بجدار التشغيل خاصة في فترة يهتز فيها العالم تحت وقع الأزمات المالية والاقتصادية وتتزعزع فيها اقتصاديات البلدان الأكثر تقدما قبل البلدان المتطلعة إلى التقدم. وبتسرّع كبير تنطلق أبواب المرتزقة لتعلن فشل السياسات التونسية في مجال التنمية فتستمع إلى هذيان يجعلك تتساءل هل أن الحديث هو فعلا حول تونس.
تونس المرتّبة الأولى افريقيا في مجال التنافسية والأولى أو الثانية عالميا في مجال حسن التصرّف في الأموال العمومية. تونس البلد الوحيد في العالم الذي تواصلت فيها الزيادات في الأجر بصفة مستمرة طيلة أكثر من 20 سنة، تونس التي كان فيها معدّل الدخل الفردي أقل من ألف دينار سنة 1987 ليتجاوز هذه السنة ال6000 دينار. وبالرّغم من هذه المكاسب الكبيرة بل الاستثنائية تجاوز الرّئيس بن علي كل ذلك ووضع برنامجه للخماسية المقبلة تحت شعار «معا لرفع التحديات» ملزما نفسه بما لا يلتزم به غيره مستنهضا الهمم لمزيد من المكاسب معلنا أن ما حصل كثير وأن ما بقي هو الأكثر والأصعب.
وجد البعض من المرتزقة المأجورين أو المرضى المحمومين رغم كل ذلك مجالا للقول بلا استحياء ولا ماء للوجه أن نظامنا السياسي لا يتجاوب مع مشاغل المواطنين ولا يهتم بهمومهم.
كيف ذلك وقد آلى بن علي على نفسه أن يكشف المستور من الأوضاع السيئة وأن يعلن الحرب على المشاكل. ولنتذكر كيف أنه ذهب بنفسه في سنة 1992 إلى منطقة الزواكرة والبرامة مستطلعا أحوال أهالينا في تلك المناطق البعيدة المحرومة فوقف على أوضاعهم الصعبة غير المقبولة وأعلن برنامج التضامن الوطني لانتشال تلك المناطق من ضنك العيش التي كان يتخبط فيه أبناؤنا. وإنني أذكر شخصيا كيف أنّ أحد السفراء العرب في تونس عند مشاهدته في التلفزة زيارة الرئيس بن علي إلى تلك المنطقة وكشفه عن أوضاعها السيئة جدّا والمقلقة جدّا قد همس لي في لقاء جمعني به: «غريب أمر رئيسكم إنه يقوم بسابقة خطيرة في عالمنا العربي إذ يكشف ما تعوّد زملاؤه العرب على إخفائه» وضرب على ذلك مثال تلك الأحياء القصديرية في بعض العواصم العربية التي تكتفي الحكومات ببناء سور شاهق حولها حتى لا يشاهدها مستعملو الطرقات السيارة.
لم ينتظر بن علي أن يحاول شبابنا المأزومون المحرومون من الشغل في حالة يأس نحزن لها ونتفهّمها ونحمّل أنفسنا مسؤولية أن آلت الأمور إليها، أن يحاول الانتحار حرقا بسبب البطالة. لأنّ بن علي قد أعلن طيلة السنوات الأخيرة أن التشغيل هو أولويته وهو أولويته دائما. ولم يكتف بإعلان ذلك بل وضع السياسات واستنبط الآليات واستنهض الهمم لمعالجة هذه المعضلة التي هي معضلة كونية وقد أفضى كل ذلك الحرص وكل تلك السياسات والآليات إلى تطويق المشكلة حتى ولو لم يتمّ حلّها بالكامل فتوقفت نسبة البطالة عن الارتفاع بل شهدت في السنوات الأخيرة نوعا من التراجع. والمعركة متواصلة وهي معركة الجميع وليس مسؤولية الدولة فقط، وهي مرتبطة بالاستثمار والانتداب في القطاع العام وفي القطاع الخاص ولكنها قضية ثقافة ينبغي أن تكون شائعة لدى أسرنا وفي صفوف شبابنا ثقافة المبادرة والتعويل على الذات ونبذ عقلية التواكل والانتظار.
أما أن يؤول الأمر إلى دعوة إلى العصيان المدني والعنف والفوضى واستباحة الأملاك والعبث بالمكاسب فهذا علاوة عن كونه جريمة في حق تونس وفي حق أخلاقيات العمل السياسي النزيه هو بالخصوص جريمة في حق الشباب العاطل نفسه الذي اتخذ ذريعة في الأحداث الأخيرة لأن ذلك الفعل معطّل للحركية الاقتصادية مسيء لسمعة بلد يبحث بكل الطرق عن الاستثمار ولأن رأس المال العالمي جبان كما يقول أصحابه فإن مسلسل الأحداث الأخيرة هذا المسلسل الذي أبدعت قناة الجزيرة في إخراجه وحبك أطواره لا يمكن إلاّ أن يربك رأس المال الوطني وينفّر رأس المال الخارجي ومآل ذلك نقص في الاستثمار أي نقص في مواطن الشغل. لأن الاستقرار في تونس هو الميزه التفاضلية التي بها يستقطب اقتصادنا الاستثمار الخارجي. والطريقة ليست جديدة فقد استعمل المتطرّفون السّلفيون نفس هذا السلاح عندما وزّعوا على السياح الأوربيين الراغبين في زيارة تونس مناشير مصوّرة فيها توابيت مع عبارة «تونس : وجهة الموت» وهي رسالة ابتدعها صانعو الموت الذين أدخلوا لتونس لأول مرّة في تاريخها العنف الدّامي والقنابل المحرقة ابتدعوها لإرهاب السيّاح وتنفيرهم من الوجهة التونسية.
يا للعجب أليس الأمر واضحا كوضوح الشمس ؟ إذن لماذا التهويل والتأويل وافتعال الأزمات ؟ من المستفيد من كل هذا ؟ والجواب بسيط لا يتطلب ذكاء مفرطا أو رسوخا في العلم، إذ المستفيد من الإساءة لتونس هم أعداء تونس حتى ولو كانوا من أبنائها نقول ذلك بكل حزن وبكل حيرة وبكلّ غضب ولكننا ننظر إلى الواقع المرّ بمسؤولية وواقعية فنحن في كون معولم يقوم على حرب المصالح والصراع السرمدي بين الخير والشر. لسنا في عالم ملائكي فالحسابات طاغية وقوى الشر متربّصة والإستعمار قائم حاضر في كل مكان حيث ندري وحيث لا ندري بل لعلّه اختار أساليب جديدة تتماشى مع العصر أساليب التخفّي والضربات غير المباشرة وهرسلة الأنظمة الغيورة على سيادتها والبحث بكل الوسائل على زعزعة الاستقرار في الدول التي لا تخضع لإرادته. وإن السذّج منّا لم ينتبهوا إلى أن قوى الشر والاستعمار أصبحت تعوّل على الاختراق «الديمقراطي» أكثر من تعويلها على الاختراق العسكري وعلى الاختراق الإعلامي أكثر من تعويلها على الصدام المباشر وإلاّ كيف نفسّر «بكاء» بعض القوى العظمى على واقع الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير (كبير في تسميتهم لكنّه قزم في موازينهم الجيوستراتيجية) وكيف نفسّر تجندهم لدمقرطة أنظمة هذه المنطقة ورصدهم الأموال الطائلة لتمويل كل عملية تمكّن من فرض الديمقراطية عليها حسب طبختهم ووصفتهم طبعا. لقد فسّر مهندسو الخطط العسكرية في مخابر المحافظين الجدد ذلك بأنّ أسلم طريقة لتركيع الأنظمة في نفس الوقت الذي تحفظ فيه أرواح جنودهم هي الالتفاف عليها مباشرة من خلال صناديق الاقتراع بالسلاح الإعلامي الذي يتحكمون فيه بالكامل ويدخلون به كل البيوت ويبرمجون به الأدمغة وبشراء الذمم وبتجنيد منظمات وأحزاب بأسرها.
والقاعدة الأساسية في هذه المقاربة الجهنمية هي أن هذه القوى الاستعمارية الجديدة تدخل المعركة وتقوم بالمناوره مستعملة أبناء البلد نفسه المنتدبين عن وعي أو غير وعي البائعين ضمائرهم بالدولار. ولعلنا لم نستوعب الدرس من جريمة «صبرا وشتيلة» التي ذُبح فيها الأطفال والنساء بإيعاز وتخطيط من سيئ الذكر «شارون» (الذي لم تقبل به لا الحياة ولا الموت) ولكن بخناجر وأياد عربيّة. تلك هي الحقيقة والأحداث المؤلمة التي عاشتها بعض مناطقنا في الأيام الأخيرة ما هي إلا الشجرة التي تخفي الغابة.
غابة الشر وغابة الاستعمار وغابة التطرّف و غابة قناة الجزيرة. لأنه لا يمكن أن نتحدّث عن المسلسل دون الحديث عن الأنامل الذهبية التي عرفت كيف تنسج خيوطه وتخرجه إخراجا إعلاميا سائغا يجمع بين التشويق والتنميق يمرّر الأكاذيب ويبث السّموم.
ومن غير قناة الجزيرة قادر على كل ذلك ؟ !
يا للغبن. إنني أتذكر ميلاد هذه القناة التي اهتزت لإنشائها قلوبنا وتوثبت عقولنا وقلنا ها قد أصبح للعرب «سيآنانهم» (CNN). عندما كنت أدمن كغيري من أبناء جيل النكسة بل النكسات العربية على هذه القناة كنت أرفض أن أصغي إلى ما كان يكرّره على مسمعي الراسخون في العلم العارفون بالكواليس لا كواليس الجزيرة أو الشغالين فيها فهؤلاء المساكين يوجدون بين المطرقة والسندان بين مطرقة صلف وتعنت هيئة الإشراف وسندان الأجور الدولارية المغدقة عليهم بالآلاف، ولا كواليس باعثي القناة فهؤلاء لكونهم لعبة في أيادي صانعي اللعبة الكونية لا ينتظر منهم أن يصنعوا المعجزات ولكنني أقصد كواليس باعثي الباعثين، لأنه يا للحسرة قد أصبحنا نعلم أن في عالمنا العربي المتدهور وراء كلّ باعث باعثه. إذن كان العارفون بكواليس باعثي الباعثين لقناة الجزيرة يؤكدون أن هذه القناة بعثت خدمة لأعداء العرب، للتمييع والهرسلة والتطبيع، تمييع القضايا الحقيقية للعرب، التطبيع مع إسرائيل، والهرسلة أي الضغط المسلط على الأنظمة العربية لإرباكها وإجبارها على الإنصياع لأجندة أعدائهم.
وقد تم ذلك فعلا فها أن هذه القناة قد قدّمت أكبر خدمة للعدو الصهيوني بأن قامت بالتطبيع الإعلامي معه وأدخلته رغم أنف العرب في وعيهم ولا وعيهم قابلين به واقعا عاديا لا تحفّظ عليه فأصبح مجرمو الحرب وقتلة الرضّع ومجوّعو الشيوخ وذابحو النساء زوّارا أوفياء لشاشة الجزيرة وأشخاصا محترمين تمدّ لهم الأيادي وتوضع على ذمتهم المكروفنات للاحتفال بانتصاراتهم على أطفال غزة وغيرهم من ضحايا الإرهاب الصهيوني.
في نفس الوقت تواصل هذه القناة بحرفية شيطانية الضغط على الأنظمة العربية التي تحاول جاهدة التمسّك بسيادة قرارها والنهوض بمسؤولياتها الصعبة تجاه مواطنيها.
وهكذا نفهم تعنّت هذه القناة إلى حدّ الشماتة الواضحة ولو كانت مضمرة عندما أتاح لها القدر ما جدّ أخيرا من أحداث في سيدي بوزيد وبعض المناطق التونسية الأخرى. إنها حرفية جهنمية تقوم على التلفيق والتدوير والاستدراج. فهي تطلع علينا كل يوم باسم جديد للجنة جديدة هي تارة لجنة المتابعة أو لجنة المناصرة أو لجنة المحاصرة أو لجنة المباشرة. أسماء لجان على رأسها أسماء بشر لا ندري إن كانوا حقيقيين أو افتراضيين يتحدثون كأن لهم قيادة سائدة وزعامة رائدة والكل يتساءل عن حق هؤلاء في الكلام بإسم الشعب التونسي ومن فوّض لهم ذلك وعن قانونية وجودهم ومصداقية أقوالهم. كل هذا لا يعني قناة هدفها ليس الإعلام أو التحرّي بل فقط إتقان حبك المسلسل بتلفيق الصور وتدويرها أي إعادة بثّها مرارا واستدراج المتدخلين لتقديم شهادات محدّدة وإعطاء أجوبة مطلوبة مسبقا بإلحاح لأسئلة محرقة. وإذا لم يأت الجواب المطلوب يقفل الخط ونمرّ إلى المتكلم الثاني عساه يقدّم من الكلام ما يتجاوب مع الصورة الكارثية التي تريد القناة تقديمها عن أحداث مقلقة ولكنها أصبحت في هذا العالم المتأزم أمرا شائعا نراها يوميا في بلدان متقدمة أكثر إمكانيات وأعرق في الديمقراطية.
وكأن مخرجي هذا المسلسل السمج لا يهمهم في شيء الرعاية الطيبة لضحايا الأحداث شبابا كانوا أو أعوان أمن ولا يهمهم في شيء الوصول إلى حلول حقيقية لمعضلة البطالة ومساعدة الشباب المأزوم لتجاوز أزمته بل يثبت بجلاء أن هدف القناة هو التحريض على المزيد من العنف والمزيد من الفوضى والمزيد من الشغب والدفع إلى مزيد من محاولات الانتحار ولسان حالهم ينبئ بأنهم يتمنون أن تؤول كل تلك المحاولات الانتحارية إلى الموت.
تلك هي الجزيرة : لقد نجحت في التطبيع الإعلامي مع إسرائيل ونجحت في إرباك عديد الأنظمة العربية ونجحت كذلك في تكريس التفرقة الاجتماعية بحرمان الشباب العربي ذي الامكانيات المحدودة من متابعة مقابلات كرة القدم بعد اشتراء حقوق بثّها بأموال طائلة شبابنا العربي لا يعرف حتّى كيف يعدّ أصفارها ولعلها ستنجح بشكل مباشر أو غير مباشر في العديد من الانجازات الأخرى كمرافقة السودان الموحد إلى مثواه الأخير وتفتيت بلدان عربية أخرى.
تلك هي الجزيرة الدَقّة الزائدة في نبض القلب العربي المنهك.
الدَّقة الزائدة التي لا يجد أمامها طبيب القلب إلاّ أن يطلب من مريضه التسليم بأمره والقبول بها كحتمية مرضية لا مناص منها.
ولكنني أقول رب ضارة نافعة. فقد سقط هذه المرّة القناع نهائيا عن الوجه القبيح لهذه القناة. وشباب تونس الذين قد يكون شدّهم مسلسلها المضحك المبكي وربما حتى استطابوا ما يستطاب عادة في المسلسلات المنمقة المزوّقة المحبوكة من تشويق وتهويل فإنهم وبالتأكيد قد حصل لهم الوعي بحقيقة هذه القناة عندما رأوا الصورة الكاذبة المشوهة التي تقدّمها عنهم وعن وطنهم.
أما أنا فأقول لأهل الجزيرة. إن مسلسلكم هذا سينتهي اليوم أو غدا وستهدأ الزوبعة التي كان لكم في إثارتها السبق والحبك. لكن رجاء، يا أهل «الجزيرة العربية»، لا تجعلوا العرب يخجلون من عروبتهم. أو على الأقل اتركوا الشعب التونسي لحاله فالبطالة هي في حدّ ذاتها عبء ينبغي على أهل تونس النهوض به أمّا أن تكونوا علينا أنتم والبطالة في نفس الوقت فإن الأمر يصبح لا يطاق.
ولشبابنا الذي يحمل تونس في عقله ووجدانه ولو كان تعبيره عن ولائه لوطنه يختلف عن طريقتنا نحن الكهول في التعبير، فإن الواجب يحتّم علينا لفت نظره إلى خطر يتهدّده ويتهدّد مستقبله وإيقاظ وعيه بهذه الرهانات الجديدة الرهيبة لقوى الخراب التي تتحرّك وراء الستار وأمامه من الرادكاليين المأجورين الملتزمين بأجندات غير وطنية بل عكس وطنية، أجندات تريد تركيع الشعوب من خلال الالتفاف على أنظمتها عندما تكون هذه الأنظمة ذات التزام وطني مطلق وذات تعلّق شديد باستقلال قرارها وعندما تكون بالخصوص قادرة على التقدّم الاجتماعي والنمو الاقتصادي ورفع رهان المنافسة والنجاح في عديد المجالات والحصول على أفضل الترتيبات العالمية بالتعويل فقط على إمكانياتها دون الاستجداء أو التسوّل. وهذه هي تونس تعمل بمثابرة وتتطلّع دائما إلى الأفضل ولا تدعي الكمال في إنجازاتها وتبقى بعديد المقاييس انموذجا في الأداء الاقتصادي الناجح والاستقلال السياسي الواضح. وهي بذلك في نظر قوى الشر الانموذج الذي ينبغي القضاء عليه حتّى لا يحمل الأمل إلى شعوب أخرى تبحث عن الانعتاق من القبضة الحديدية لتلك القوى.
إن الأحداث المؤلمة التي شهدتها أخيرا بعض المناطق في بلادنا تدعو بالتأكيد إلى التوقف عندها وسبر خلفياتها وملابساتها وخباياها والوقوف كذلك وقفة أولى تعاطفا مع ضحاياها وتفهّما لمشاغل شبابنا وتطلعاتهم للعيش الكريم والشغل اللائق، ووقفة ثانية استغرابا بل واشمئزازا للطريقة السمجة التي وظفت بها قناة الجزيرة هذه الأحداث، ووقفة ثالثة تفاعلا مع موقف الرئيس زين العابدين بن علي الذي عبّر عنه في كلمته التي توجه بها مساء الثلاثاء 28 ديسمبر الجاري إلى الشعب التونسي وإكبارا لحسّه الإنساني المرهف لدى مواساته لعائلات المتضرّرين في تلك الأحداث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.