حسن جغام ناشر شارك في عديد التظاهرات الدولية بل اقتحم مجال الكتابة قبل النشر وهذا ما جعل البعض يستكثر عليه ذلك... دخل في معارك كثيرة... آمن بطه حسين ورموز التنوير ودخل عشّ الدبابير وفضح الممارسات الخاطئة في مجال النشر وهاجم رموز الفساد مقتحما أوكارها... كتابه «مذكرفات ناشر» لم يمر بسلام حيث وجد في انتظاره شكاوى وتتبعات كادت تعصف بمستقبله... وفي هذا الحديث سيتحدث حسن جغام عن الثورة ويقلب بعض صفحات الماضي : سمعنا الكثير من الأصوات الثائرة بعد 14 جانفي، ولم نسمع موقفك من الأحداث الساخنة والمتلاحقة، في حين أنك قبل سنة أصدرت كتابا، اعتبره البعض صرخة احتجاج على الفساد السائد في وزارة الثقافة. سكوتي في حد ذاته هو تعبير عن نشوتي المفرطة التي عشتها طيلة الأيام الماضية، حتى أنني أحيانا أظن نفسي أحلم، إذ أنّ القنوط والإحباط، والإذلال والظلم والكبت وما إلى ذلك من المآسي، التي عشناها، جعلتني لم أصدق ما تشاهده عيناي. وهل استفقت من نشوتك الآن، وصدقت بما حدث؟ صدقني حين أصارحك بأنّي كنت من الضعف إلى حدّ أنّي حين شاهدت تلك الجماهير الغفيرة يوم 14 جانفي في شارع بورقيبة في تونس، أو الحشود العظيمة في صفاقس، قبل هذا التاريخ، كانت دموعي تنهمر من شدّة الفرحة، لأن الشعب التونسي بمختلف طبقاته استيقظ في وقفة الرجل الواحد، مما جعلني في ذهول من شدة التأثّر، إنه لمشهد عظيم حقا بكل المقاييس. كذلك حين أصبحت أسمع أجهزة الإعلام العالمي تعترف بأنّ المارد العملاق المتمثل في الشعب التونسي، نفض عن نفسه كل ما ذكرته من خذلان. هذا الاعتراف الذي شهد به العالم أجمع، أبكاني أيضا، ولكنّها كانت دموع الغبطة والفرح، كما قلت... ولكن اليوم وبعد أن تأكدت من إصرار الشعب التونسي على التغيير الكامل والحقيقي، اطمأننت على نجاح هذه الثورة بنسبة تسعين في المائة. وحين نطمئن على سلامتها مائة في المائة، عندئذ يمكنني القول إنّها الثورة التي سيجعلها التاريخ عبرة للشعوب، المغلوبة على أمرها لتنفض عن نفسها الخوف... لأن هذه الثورة التونسية تميزت بميزتين، الأولى أنها تلقائية، والثانية أنها وقفت وقفة الرجل الواحد، لذلك لم يستطع أن يهزم إرادتها الطاغي رغم ما أعدّ لها من أساليب القمع حتى كأنّ أبا القاسم الشابي كتب قصيدته طبق إرادة الشعب التونسي حين قال : إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر ولا بد للظلم أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر إذن بعد أن اقتنعت بأنّها ثورة حقيقية وليست حلما!... فما هو رأيك في ما يجري على مستوى تشكيل الحكومة من جهة، ومطالب الجماهير والمعارضة التي لم تنته، من جهة ثانية؟ أشكرك على إتاحة هذه الفرصة بأن أساهم مع الأصوات الحرة في الإدلاء برأيي... بعد أن عشت عقودا كالكثير من المثقفين : «العين بصيرة واليد قصيرة». رغم محاولتي عن طريق كتابي «مذكرفات ناشر» أن أبلغ رسالة للمثقفين تحمل صيحة فزع لما يحدث من فساد. ولم تجد أذنا صاغية خاصة من وزير الثقافة السابق، والذي أخذ موقفا عدائيا من الكتاب حتى أنه منع عرضه في معرض الكتاب الأخير... أما اليوم، أقول لكل من له بذرة من الوطنية، أن يحافظ على هذه الثورة العظيمة، فهي كسب لكل الشعوب العربية خاصة تعجز كل العبارات عن تقييمه، وأن نحافظ جميعا على الوجه المشرق الذي ظهر به الشعب التونسي للعالم، وأن لا نخيب ظنّ الأحرار في كل بقاع الدنيا، لأن قلوبهم معنا. وأناشد بصفة خاصة، كل وزير من أي حزب كان، أن يضع في الاعتبار المصلحة الوطنية فوق أيّ اعتبار آخر، كما أناشد العناصر التجمعية التي لازالت في الحكومة في أي موقع من المواقع أن يقيلوا أنفسهم من مهامهم، وليس من الحزب التجمعي فقط، إذا لم يستطيعوا أن يتخلّصوا من عقلية المراوغة والمغالطة، التي اتسم بها حزبهم الذي تجاوزه التاريخ، بأساليبه المتخلّفة ليس في عهد بن علي فقط، بل كانت أسلوب بورقيبة منذ أن افتك اسم الحزب الحر الدستوري من الزعيم عبد العزيز الثعالبي، وهنا أذكر بأن زين العابدين بن علي ما هو إلا تلميذ الحبيب بورقيبة، وهذا الأخير بدوره تلميذ لميكيافيلي، وهي المدرسة المعروفة باللاأخلاقية، إذ كانت مبادئها الاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها بكل الوسائل، ولعل الكثير من التونسيين، لازالوا يتذكرون قولة بورقيبة الشهيرة : «الغاية تبرّر الوسيلة»، وغايته الاستمرار في السلطة مدى الحياة... وكل مطلع على التاريخ وأسراره يعلم ذلك جيدا. ماذا تريد أن تضيف قوله في هذا المناخ الجديد من حرية التعبير؟ ما أود أن أقوله هو أني مازلت خائفا على سلامة هذه الثورة من الأشرار، أعداء الوطن، وأما ما أود أن أتحدث عنه أيضا، بصفة خاصة من منطلق القناعة والتجربة، هو ما يتعلق بوزارة الثقافة. ومن خلال تجربتي الطويلة مع هذا الهيكل المريض، فإن الوزارة لم تكن في يوم من الأيام إلا مجرد «فترينة» للتظاهر فقط... إلى حد أني طالبت بإلغائها، حين أعلنوا عما يسمّى بالاستشارة الوطنية حول الوضع الثقافي سنة 2002، وقد اقتحمت أحد اجتماعاتهم دون دعوة، وذكرت لهم أن هناك دولا ذات ثقافة عريقة ومتطورة جدا، وليست بها وزارة للثقافة، فما بالك إذا كانت وزارة الثقافة في بلادنا هي العرقلة أمام مسيرة الثقافة، يعشعش في كواليسها الزيف الثقافي... فمن يكتب كتابا يمجد فيه «بن علي» يرتفع رصيده المالي ويصبح مرشحا لأعلى المناصب... إذ ليس لهذه الوزارة من نشاط إلا في هذا الاتجاه الرخيص... كتابك «مذكرفات ناشر» هل كان من الأصوات المعارضة قبل 14 جانفي؟ أكيد، بل فضحت فيه كل الانتهازيين وأشرت إليهم بأسمائهم... ولهذه الأسباب تعرضت لتتبعات قضائية وأدنت في بعضها بتهمة الثلب والتطاول على «رموز وطنية» كما زعموا ، ومازالت قضايا أخرى جارية بعضها في الابتدائي، وأخرى في الاستئناف، وأخرى في التعقيب، ولكن مع الأسف عتمت الصحافة كل هذه المعلومات، إلى حد أن الرأي العام لا يعلم شيئا عن هذه القضايا الجارية منذ أكثر من سنة... أما المبرر لهذا التعتيم هو الخوف من ذكر أسماء الذين يسمون أنفسهم «رموز». ولكن الذي أسعدني هو أن كل من قرأ كتابي، إلا وكان متعاطفا معي يؤيدني في كل ما ورد فيه من حقائق... ولكن مع الأسف لم أجد واحدا من هؤلاء مستعدا ليدلي بشهادته، بما يعلم من السرقات والتجاوزات لأدّعم بها موقفي في المحاكم، بل وجدت والي سوسة الحالي يتدخل، ويقول بالحرف الواحد لكل محام انتدبه للدفاع عني : «هل تريد أن تقضي على مستقبلك السياسي بأن تدافع عن معارض ضد تجمعي...». أما أطوار محاكمتي بسبب هذا الكتاب سيأتي الحديث عنها في الوقت المناسب... ولكني أذكر ذلك الآن لأنّ كل ما ذكرته في هذا الكتاب من سرقات يندرج في صلب الفساد المالي الذي ثار بسببه الشعب.