بقلم: لطفي الحناشي (صحفي تونس) بعد أن قمت بتغطية أغلب الأحداث السياسية في السنوات الثلاثين الماضية كمراسل لعديد الوكالات والصحف العالمية من حرب الخليج الأولى والثانية وحرب لبنان وعديد الأحداث كتب لي القدر أن أعيش ثورة الأحرار في تونس من الداخل ولكن هذه المرّة ليس بعين المراقب المحايد بل بجوارح المواطن الفاعل والمؤثر في الأحداث من قلب الحدث كمواطن يهمه أن يرى تونس ترفل بأثواب الحرية والديمقراطية وينعم شعبها بالكرامة والعزّة ويكسر سلاسل الخوف والرعب الذي مارسه الطاغية الهارب وزبانية نظامه الفاسد المتعفّن حتى النخاع في كل مفاصل الدولة وبعد الصدمة والذهول أصبحت أشعر بالاشمئزاز من حجم الفساد المستشري وهو شعور كل تونسي نبيل وغيور. والانطباع الأول الذي يمكن استنتاجه من هذه الثورة المباركة أن تونسنا تحكمها عصابة «مافيوزية» إجرامية حوّلت تحت سطوة الخوف من البوليس والتهم المفبركة الحاضرة في «أمن الدولة» حولت أحرار تونس إلى رعاياها مملكة بن علي على شاكلة الحكم المطلق للويس الرابع عشر الذي كان يملك الأرض ومن عليها في فرنسا فأصبح للسلطان القانون وأصبح الحصول على حماية أحد الطرابلسية أو أقارب المجرم الهارب بن علي Carte blanche وحصانة وجواز مرور للتخلص من أي التزام تجاه الديوانة أو إدارة الأداءات أو حتى مراكز الأمن التي بات أعوانها يأتمرون بالطرابلسية وعصابة من يحملون لقب بن علي ويدوسوا على حقوق المواطنين الذين فوضوا أمرهم إلى الله... بل إن أخطر جرائم النظام السابق هو محاولته الآثمة بضرب السلم الأهلية في مقتل وكان مخططه الخبيث تحويل تونسنا الجميلة المسالمة التي نفاخر بوحدتها الوطنية وسلمها الأهلي المعروفة به إلى لبنان أو صومال آخر لولا الوقفة الرجولية الشجاعة لجيشنا الباسل سور الوطن في تلاحم رائع مع اللجان الشعبية التي أعطت للعالم صورة رائعة لوحدتنا الوطنية الصماء وقبرت في المهد مخطط الطاغية وجلاديه أعداء الشعب والحرية ولا غرابة في ذلك لأن الجراثيم تحب التكاثر في الظلام وفي المياه المتعفنة الآسنة فعندما تسكب عليها الجافال وتزيحها سواعد وحناجر وصدور الشباب التي اخترقها رصاص الغدر فإن رائحتها الكريهة تزكم الأنوف فهؤلاء الانتهازيين الذين كانوا يتزلفون للنظام المقبور وأبواق دعايته التي لمعت صورته البشعة لم يتعودوا على نظافة اليد والعمل للصالح العام بل لمصالحهم الأنانية فقط ويكرهون العمل تحت الشمس بل الدسائس في الخفاء ولكن كما قال الشابي لكل ظالم مستبد لا بد أن يأتي يوم الحساب. ونحن في انتظار ما ستسفر عنه محاكمة السرياطي وكل من ساهم في ترويع شعبنا الآمن، محاكمة شفافة يسمح للإعلام بتغطيتها حتى يكون الرأي العام وهذا حقه الدستوري على بينة من كل ما جرى بكل تفاصيله وعندها فقط يمكننا القول إننا قطعنا مع سياسة التعتيم الإعلامي. وحتى نستطيع التصديق أن ثورة الشعب حققت أهدافها هو إصلاح كل مفاصل الإدارة من الوزير مرورا بالولايات والمعتمديات والقصاص من الفاسدين والمرتشين وتصبح الإدارة في خدمة المواطن لا في خدمة الموظف ومن أوكد الإصلاحات تبديل العقلية القمعية في سلوك رجال الأمن من خلال دورات مكثفة تتحول فيها مصالح الأمن إلى مرفق إداري يحترم كرامة المواطن وحقوقه ولا يتعسف عليه في الاستغلال المفرط للنفوذ. ومن الكوارث التي تحتاج إلى إصلاح عميق في دولتنا التي نريدها انموذجا للرقي الاجتماعي والتعامل الحضاري فيما بين كل التونسيين هو أن النظام التسلطي البائد افرغ كافة المصطلحات التي يرتكز عليها النظام الجمهوري من مدلولاتها الفكرية والفلسفية والقانونية النبيلة ومن المفارقات التي كانت تضحكنا ونحن نكتوي بنار الدكتاتورية أن الرئيس المجرم الهارب كان يتشدق في كل خطبه ب«حقوق الإنسان» بل أطلق على وزارة العدل «وزارة العدل وحقوق الإنسان»! في وقت كانت الرابطة مكبلة بقرار قضائي! وأسس صندوقا للنهب المقنن والمنظم «صندوق التضامن» فأفرغ كلمة تضامن من مدلولها الإنساني الفلسفي العميق! وكان يتشدق ب«دولة القانون والمؤسسات» فإذا هي دولة المافيا والرشوة والمحسوبيات! وقد وصل الفساد الإداري مراحل متقدمة كالسرطان تحتاج إلى عقود لشفائها بل الأنكى والأمرّ من ذلك أنه وعلى امتداد أكثر من نصف قرن من الاستقلال ومنذ بورقيبة كان التونسي يعيش غسيل دماغ إعلامي يومي حتى يكون ولاءه للرئيس «الأوحد» والقائد المجاهد الأكبر تارة و«صانع التغيير» تارة أخرى! ونسي التونسي أن لا تقديس بعد الله سبحانه إلا لتونس الأرض والشعب والعلم المفدى فلعمري أن نعجة في ريف سيدي بوزيد وحبة رمل في فيافي دوز وتطاوين وسمكة في شاطئ سيدي المكي وقطرة عرق فلاح يحرث الأرض في بوسالم وشعرة بيضاء من لحية خمّاس جريدي يذكّر نخلة تحت لهيب الشمس لأشرف عندي وعند كل تونسي شريف من كل كنوز الأرض والتملق للرئيس الهارب وحاشيته ونظامه الفاسد المستبد. وبعد سنوات الظلم والقهر والبطش وتكميم الأفواه يجب أن يتحرّر التونسي نهائيا وإلى غير رجعة من الرعب من «الحاكم» و«الصمت الرهيب» ولغة «أخطى راسي واضرب» وكذلك عن الأنانية المفرطة ونحافظ على أهم مكسب لهذه الثورة وهو «المودة والرحمة والتآزر» بين كافة التونسيين فبعد أن انزاحت الغمّة أصبحنا نلاحظ تراحما وتواصلا بين الجيران والزملاء في العمل وحتى بين السائقين في الطرقات وهذه من إفرازات الثورة المباركة وإن شاء الله تستمر. ولأنني إعلامي فإنني لازلت أخشى على ما تحقق من حرية التعبير من أعداء الحرية والمطلوب تحصين هذه المكاسب من خلال تضمين حرية الرأي والتعبير والصحافة كثاني فصل مثلما هوالحال في الدستور الأمريكي وأن لا يكون هناك أي سلطان على الصحفي إلا سلطان ضميره وأخلاقيات المهنة فقط ولا بد للصحافة أن تدافع على مكاسبها ضد أي تدخل ويكون لها استقلاليتها تماما مثل القضاء والمحاماة لأنه ببساطة شديدة لو مارست السلطة الرابعة سلطتها الرقابية في كشف تجاوزات الرئيس المخلوع وحاشيته الفاسدة في كل مفاصل الدولة في الإبان وتنوير الرأي العام لأمكن استئصال سرطان الفساد في المهد وجنبنا البلاد هدرا لآلاف المليارات التي كانت لو أنفقت في مكانها الصحيح لتحوّلت سيدي بوزيد والقصرين وسليانة إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. ولكنها الآن بائسة تجري من تحتها الأصفار فلا عاش في تونس من نهب خيراتها ولا عاش من قتل بالرصاص شبابها.