لئن نجحت الهبّة الشعبيّة التونسيّة في القضاء على رأس الأفعى الديكتاتوريّة، وانتهت به مَرْمِيّا في مدينة سعوديّة يتوارى بين جُدرانها ذليلا منكسرا، فإنّ تداعيات سقوط الرئيس «بن علي»مازالت تُلْقِي بظلالها على المشهد السياسيّ في تونس، ومنها إلى الوطن العربيّ بِرُمَّتِهِ. فالمظاهرات في الساحات لم تتوقّف. والاحتجاجات الشعبيّة مافتئت تتنامى، وتتنقّل كالعدوى من عاصمة عربيّة إلى أخرى منذ أن أعلن الجياع ثورتهم في تونس. وهي تُنْذِرُ بتغييرات جيو سياسيّة لا يُمكن لأحد على المدى القصير أو البعيد أن يتنبّأ بنهايتها. ويبدو أنّ شظايا ما جرى في تونس قد طاشت الخارجيّة الفرنسيّة بعد أن بدت وكأنّها تائهة، مُغيَّبة عمّا يجري في الساحة التونسيّة. هذه الأرض القريبة من أوروبا التي تُعَدّ تاريخيّا واقتصاديا حديقة فرنسا الخلفية التي يجب أن تحرص على مراقبة التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي تطرأ عليها. وقد اندهش التونسيون التوّاقون إلى الحريّة والانعتاق، والمتابعون لما يجري على السّاحة التونسيّة من تدخل السيّدة «مَامْ» أمام النوّاب الذي اقترحت فيه تزويد الرئيس التونسي السّابق عندما كان يُصارع موجة الغضب «بكلّ حزم»، بالخبرة الفرنسيّة كي يُحْسِنَ التعامل مع المتظاهرين. وقد اقترحت عليه دروسا في ضَرْبِ المحتجّين على القدميْن بغاية شلّ تحركاتهم عوض استهدافهم استهدافا مباشرا ب«الكَرْطوش الحي» ! وعندها حصلت قناعة لدى كثير من التونسيين بأنّ إدارة «ساركوزي» تستخفّ بدمائهم. وتأكّد للمتابعين أنّ الديبلوماسية الفرنسيّة قد فشلت فشلا ذريعا في قراءة ما يجري على الأرض قراءة صحيحة. وبعد أن حقّق التونسيون انتصارهم على مَنْ جَثم على رقابهم لمدّة قاربت ربع قرن، وتمكّنوا من تقديم درس في الثورة سعى غيرهم إلى استنساخه سَعْيَ مَنْ يستأنس دائما بالتجارب الناجحة ، أطلّ السيّد «ساركوزي» ليعلن في الوقت الضائع اعتذاره عن سوء فهم «فرنسا الحرّيات» لتطلّعات شعب آمن بحريّته ! وسيرا على نهج السياسيّ الانتهازيّ الذي يرى الخطأ في غيره دائما، لمّح السيّد الرئيس إلى أنّ الخارجيّة الفرنسيّة لم تنجح في نقل حقيقة ما يجري إلى قصر «الإيليزيه» بدقّة. وقام إثر الاعتذار المقتضب بعزل السفير الفرنسيّ في تونس. وهو ما اعتبره بعض المراقبين محاولة من الرئيس للخروج من الحرج عبر تحميل «ميشال أليو ماري» مسؤوليّة سوء تقدير فرنسا لتطلّعات شباب تونس ورغبته في نيل الحرّيّة. ومن غير المستبعد أنّ أيّام السيّدة الوزيرة على رأس الديبلوماسية الفرنسيّة باتت معدودة. وجاء من أقصى الصحف خبر يسعى يشير إلى أنّ السيّدة وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة «ميشال آليو ماري»كانت قد حلّت بتونس في شهر «ديسمبر» عندما كان الشباب يَغْلِي، ويُواجه الشرطة بصدوره العارية، على متن طائرة خاصّة يملكها أحد رجال الأعمال المقرّبين من الرئيس السابق. واستمتعت، رفقة زوجها الوزير، وباقي أسرتها، بإقامة سياحيّة في مدينة «طبرقة» غير بعيد عن صوت الرصاص الذي كان يقتل التونسيين. وبدا جليّا أنّ فترة النقاهة التي قضتها السيّدة «مَامْ» في هذه المنطقة السياحيّة من البلاد التونسيّة الخضراء كانت ممتعة ومريحة للأعصاب، إلى درجة أنّ أُذُنيْها لم تسمعا لعلعة الرصاص في أكثر من ساحة تونسيّة ! وليس غريبا، إذن، أن تخرج على الناس بتلك الدّروس المجّانيّة التي تطوّعت بالمساعدة في تقديمها إلى الشرطة التونسيّة كي تتعلّم إحداث شلل في جسم محتجّ بكلّ إنسانيّة !! بَدَلَ قتله بكلّ وحشيّة ! لقد أمعنت هذه السيّدة التي تضحك بأنياب متوحّشة في إيذاء تونسيين لطالما ظنّوا أنّ «فرنسا الديمقراطية» حاضنة لتطلّعات الشّعوب في رحلة بحثها عن الحريّة. وتجرّأت على الاستخفاف بشعب تعلّقت همّته بكسر القيود، ولم يكن له من ذنب إلّا المطالبة بحقوقه المشروعة في التحرّر والانعتاق، ورفض الحذاء العسكريّ الموضوع على رقبته منذ «تغوّل» السّابع من نوفمبر. على أنّه من المفيد تذكير السيّدة الوزيرة التي بدأ نجمها السياسيّ يأفل بأنّ الطائرة التي استقلّتها لتُحلّق بها فوق سماء تونسيّة مُلبّدة بغيوم الغضب والاحتجاج لن تكون في انتظارها لتحملها إلى وجهة سياحيّة أخرى عندما تغادر مقرّ الخارجيّة الفرنسيّة في القريب العاجل سيرا على القدميْن لا تخفرها إلّا كوابيس الثورة التونسيّة.