انشغل التونسيون طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية بالشأن الداخلي وبالتفاعلات التي جاءت في سياق الثورة ومنها الحكومة الانتقالية والاعتصامات والإضرابات والتشكيات وفتح ملفات الفساد الذي جسمه الحلف غير المقدس بين عائلة المخلوع بن علي وأصهاره والمقربين منهم وبقيت مسألة لم يتم تناولها وأرى أنه يتعين عدم إهمالها لأنها تتعلق بكرامة الشعب التونسي . هذه الكرامة مثلما انتهكها النظام البائد انتهكتها أيضا دول «صديقة» أولا بإقامة علاقات متميزة مع نظام بن علي والتغطية سياسيا وحتى من قبل بعض أجهزة الإعلام الغربية على ما اقترفه النظام السابق من جرائم وتعد على حقوق الإنسان وثانيا بالتزام الصمت يوم ثار أبناء تونس في سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وتعرضوا لشتى أساليب القمع ولم تحرك حكومات تلك البلدان «الصديقة» ساكنا وظلت تنتظر اللحظات الأخيرة حتى «توضحت» صورة المشهد التونسي. يتعلق الأمر بكل من فرنساوالولاياتالمتحدة وهما بلدان غربيان نعرف الأول طبيعة مجتمعه وحياته السياسية والثقافية وهو شريك اقتصادي بحكم عدة عوامل فيما لا نعرف في الولاياتالمتحدة إلا الدولة العظمى والبلد الذي يشكو انفصاما في الشخصية بحكم علاقاته الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني ( نعم هكذا يتعين تسمية ذلك الكيان الذي مازال يحتل فلسطين ومازال يمثل خطرا على كل بلد عربي حتى إن أقام معه علاقات ديبلوماسية ) المنتهك لحقوق الإنسان بينما تتبنى الدعاية الأمريكية مبدأ الدفاع عن تلك الحقوق وإيلاءها مكانة بارزة في التعامل مع الحكومات والأنظمة. المحاسبة والمساءلة لا بد من محاسبة ومساءلة فرنساوالولاياتالمتحدة على مواقفهما المتخاذلة تجاه نظام بن علي وصمتهما عن كل ما حدث في تونس قبل الثورة وأثناءها وهو تقريبا ما يحدث حاليا بخصوص الثورة في مصر. فها هي الحكومة الفرنسية تتعامل بلين غريب مع نظام مبارك ولا تجد الشجاعة لتقول له» انسحب» منذ بداية التجمعات في ميدان التحرير وسط القاهرة وفي بقية المدن المصرية. أما الإدارة الأمريكية فإنها تتعامل مع ثورة مصر بما يشبه التسجيل الفوري، أي ليس هناك تفاعل مع الأحداث ومواقف المعارضة ومطالبها خصوصا في الأسبوع الأول من الحركة الاحتجاجية ،وعندما أدركت واشنطن أن مبارك انتهى بدأت تتحدث عن ضرورة التغيير الحكومة الفرنسية والرئيس الفرنسي ساركوزي نفسه كان موقفهما جد متخاذلا ويندى له الجبين وهو ما جعل عديد وسائل الإعلام الفرنسية تنتقد بشدة الديبلوماسية الفرنسية وتوجه لوما شديدا لوزيرة الخارجية ميشال أليو ماري . لن ينسى التونسيون للوزيرة الفرنسية وقوفها بكل صلف لتعلن استعداد بلادها تمكين نظام بن علي من «خبراتها» في المجال الأمني أي قمع المظاهرات فكأن الأمر يتعلق بجائحة طبيعية مثل مكافحة الجراد أو وباء...... ربما اعتقدت الوزيرة أن انغماس الشعب التونسي في إعادة تنظيم شؤونه طوى الصفحة ولكن صحيفة «لوكانار أنشيني»فضحتها وكشفت أنها قضت عطلة العام الجديد في تونس مستعملة طائرة خاصة على ملك رجل أعمال تونسي في الوقت الذي بدأ أهالي سيدي بوزيد يعانون من شتى أساليب القمع. لن ينسى التونسيون أيضا أن شيراك ثم ساركوزي بعده والصحف اليومية اليمينية ساندوا بن علي وحاولوا تجميل صورة نظامه بينما هم يتشدقون بالدفاع عن حقوق الإنسان..أنظروا كيف أصبح أحفاد فلاسفة النور و أبناء الثورة الفرنسية يتعاملون مع الثورة في تونس ومصر..... لن ينسى التونسيون أن شعار «حرية عدالة- أخوة» لم ينطبق عليهم في تجاوز البعد الإنساني (humaniste )بل إن الحكومة الفرنسية نظرت بازدراء لحركتهم الاحتجاجية رغم «العلاقات التاريخية « بين فرنساوتونس. لماذا ثم لماذا؟ ترى لماذا تنظر الحكومات الفرنسية نظرة دونية للشعب التونسي ؟ لماذا تهمل تلك الحكومات الشعب التونسي عند تعاملها مع النظام ؟ أليس هناك مفارقة في تعامل حكومة مستندة إلى أغلبية أفرزتها إرادة الشعب الفرنسي عبر صناديق الانتخابات مع نظام يفتقد إلى الشرعية ولم يكن يعبر عن إرادة الشعب التونسي؟ لماذا عاملتنا فرنسا بهذه الطريقة ؟ هل لأن تونس كانت مستعمرتها سابقا وهي مازالت ترى أننا شعب لا يستحق الحياة .. وتحديدا الحياة الكريمة؟ مجموعة من التساؤلات لا نريد إجابة عنها أو توضيحات بشأنها من فرنسا بل نريد اعتذارا علنيا فيه اعتراف بالخطإ وتكفير عن ذنب واحترام لثورة الشعب ..نريد ذلك من فرنسا التي رفضت الاعتذار عن ماضيها الاستعماري الذي أضفت عليه الشرعية ..نريد ذلك من فرنسا التي تتعامل بمكيالين مع أوروبا الشرقية وإسرائيل ومع مصر وتونس..نريد ذلك لأن فرنسا أغرتنا بمفكريها وفلاسفتها وأغوتنا بمبادئ الحرية والمساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان. علاقات تونس- الثورة التي نريد إقامتها و-كان يفترض أن تقام منذ الاستقلال مباشرة- وهي علاقات يتعين أن يكون أساسها الاحترام ..نحن نحترم فرنسا و لكنها لم تحترمنا في علاقاتها بنظام بن علي ولم تحترمنا يوم ثار الشعب على النظام . إنها مجرد فكرة نترك للحكومة ووزارة الخارجية التونسية بلورتها واتخاذ ما تراه في إطار إعادة النظر في توجهات الديبلوماسية التونسية مع الأخذ دوما بعين الاعتبار كرامة الشعب التونسي أولا والدفاع عن مصالحه وحمايتها ثانيا. الإدارة الأمريكية ليست بريئة أما بالنسبة للإدارة الأمريكية فهي تلام هي الأخرى على تلكئها في اتخاذ موقف واضح منذ بداية الحركة الاحتجاجية في تونس . فإشادة الرئيس الأمريكي أوباما بالثورة التونسية ووقوف أعضاء الكونغرس إجلالا لها- وحتى إن كان نادرا لا يمكنه أن يحجب حقيقة الدعم والتأييد الذي كان يحظى به النظام البائد مثلما لا يمكن أن تكون بعض الإيحاءات بحث نظام بن علي على الانفتاح مقنعة بل لم تكن فعالة بدليل أن المخلوع واصل خنق الشعب التونسي على مرأى و مسمع من قنوات الإدارة الأمريكية مثل التقارير التي ترفعها السفارة الأمريكيةبتونس إلى الخارجية الأمريكية ولعل ما كشفه موقع ويكيليس من وثائق فيما يخص الفساد خير دليل . الإدارة الأمريكية معنية هي الأخرى بالاعتذار للشعب التونسي لأن الإشادة في الكونغرس الأمريكي بالثورة هي انتهازية أكثر منها اعتراف بحق الشعب في استرداد حريته ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الإدارات الأمريكية لم يكن يهمها دوس حقوق الانسان في البلدان العربية بقدر ما كان يهمها تنشئة الأنظمة العربية على القبول التدريجي بالكيان الصهيوني في انتظار التطبيع العلني معه. بل إن النظام البائد استفاد بالتأكيد من حماية اللوبي الصهيوني بوسائل شتى سيكشف عنها التاريخ يوما ما . لقد كانت هناك علاقات مهما كان مستواها- بين النظام السابق والكيان الصهيوني ونجح النظام في توظيف تلك العلاقات لتشكل رابطا صلبا مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة لذلك لم يصدر عنها ما يعكر صفو العلاقات الأمريكية -التونسية ..وبالتالي لم ينتظر أي تونسي أن تلتف إدارة أوباما على نظام حليف أو تسارع إلى تأييد الخطوات الأولى لثورة الشعب على الطاغية. ومن هذا المنطلق لن نتوقع تعاملا للإدارة الأمريكية طبيعيا مع تونس أي في إطار الاحترام المتبادل بل من خلال ما سيكون عليه موقف الحكومة التونسية من التطبيع مع الكيان الصهيوني وهو أمر ربما يعقد العلاقات مع واشنطن لأن الساحة السياسية في تونس في مجملها معبأة سلفا ضد التطبيع. الوتر الحساس ..الإسلاميون..الإرهاب والخلط المتعمد وعندما تبدي الإدارة الأمريكية انزعاجا نتيجة فشل مخابراتها في التوقع لما حصل في تونس ومصر فذلك ليس عذرا في حد ذاته ل»تخلف» الموقف الأمريكي عن الاحتجاجات الشعبية بقدر ما يفسر تحسرا على انعدام التوقع بما كان يمكن البيت الأبيض من تدارك الأمر وتوجيه الأحداث وتطورها بما يخدم المصلحة الأمريكية في بقاء نظامين حليفين لا يعتبران معاديين للكيان الصهيوني . في مصر يخشى الأمريكيون ومعهم الكيان الصهيوني من تولي «الإخوان المسلمون» زمام الحكم وهو ما أكده مبارك لتخويف الغرب في حالة انسحابه ..ولا شك أن القاسم المشترك بين نظامي بن علي ومبارك هو إدخال فكرة خاطئة في ذهن السياسيين والإعلاميين في الغرب تتمثل في كون كليهما درع ضد ما يسمى بالإرهاب أي وصول الإسلاميين إلى الحكم أو الاستيلاء عليه. رب عذر أقبح من ذنب .. أدخل النظامان في العقول غولا في الداخل والخارج ومارسا شتى أنواع الانفراد بالرأي والقمع إضافة إلى رعاية الفساد والمفسدين. وإذا كانت كل من فرنساوالولاياتالمتحدة تلعبان في الماضي والماضي القريب على وتر حماية المغرب العربي من» التطرف» والحيلولة دون وجود حكم «متطرف» مجاور للكيان الصهيوني فإن ذلك لا يشفع لهما وقوفهما إلي جانب الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة .. ..المهم أن لا نترك في تونس لأية جهة خارجية محاولة توجيه حياتنا السياسية وفرض توجهات لا تتماشى مع مجتمعنا الناضج والمتسامح والقادر على التمييز وتحديد اختيارته . نقول لفرنسا و امريكا : لقد قام كل واحد بثورته لكنكما انتهكتما مبادئها بصورة أو بأخرى أما التونسيون فقد فتحوا أبواب الثورة العربية الكبرى الحقيقية على مصراعيها وسيساندون كل تحرك شعبي من أجل القطع مع التوأم سيئ الذكر الديكتاتورية والفساد.