ككل ثورة ومهما قيل إنها عفوية فإن لها ممهداتها ومؤشراتها وشراراتها الأولى التي تبدأ بالاحتجاج... والنقد وحتى «النكات» السياسية فالانتفاضات التي تتحمل بعض الجهات والقطاعات مسؤولية اندلاعها وصولا الى القطرة الزيتية التي تفيض وتُصبّ على نار الفتيل لتعلن الثورة في مكان ما قبل أن تعم كل البلاد وتنتشر وتصبح عارمة.. وإذا بدأت الاحتجاجات في أكثر من قطاع فإن الانتفاضة الأولى انطلقت في الحوض المنجمي منذ سنة 2008.. هذا الحوض الذي تراكمت فيه التجاوزات وكل أشكال الفساد الاداري في شركة فسفاط قفصة مما جعل البطالة تتضخم والتنمية تتراجع والبنية التحتية تتآكل قبل ان يصعد الى المسؤوليات الوطنية على غرار البرلمان ومجلس المستشارين والجهوية والمحلية مثل البلديات والمنظمات والمجالس وحتى الجمعيات الرياضية الانتهازيون الذين لا علاقة لهم بالشعب وربما وجدوا في النزعات القبلية خير الصهوات للتآمر والصمت في البداية وذلك بدعم كبير من مسؤولي شركة الفسفاط والمعتمدين والولاة القدامى والجدد الذين لا همّ لهم خير مصالحهم الشخصية وتصفية كل من يقف معارضا لتلك الانتهاكات وذلك بمختلف الأساليب والطرق دفاعا منهم عن لصوصيتهم وعن ما يجنونه من ثروات ومنابات على حساب الشغالين والشعب ككل لتمر الايام والأشهر والسنوات والابتزاز يزحف في كنف الانتهازية واللصوصية الى أن فاض الكأس وأصبحت مناطق الحوض المنجمي بمثابة «المناطق الصناعية» التي تفتقر الى أبسط الحياة المدنية والحضرية بعد ان كانت في فترة الاستعمار الذي لا يمكن تجميله غير ان الحقيقة وحدها كشفت ان المدن المنجمية كانت أجمل وأرقى وأفضل ويطيب فيها العيش قبل امتصاص دماء أبنائها في الفترة البورقيبية التي انتقم فيها الحبيب بورقيبة من تلك الجهة التي لها تقاليدها النقابية والثورية كما كان من أبنائها بعض «اليوسفيين» قبل محاولة العملية الانقلابية التي قادها الشهيد الأزهر الشرايطي في 19 ديسمبر 1962 والتي ضمت العديد من أبناء هذا الحوض المنجمي... لتشاء الظروف بعد 7 نوفمبر ان تمتد ايادي الغدر واللصوصية الى هذه الجهة المناضلة التي سرق فيها ومنها «أزلام» الرئيس المخلوع والجبان الهارب الثروة كلها وما تبقى للأجيال القادمة من مدخرات الفسفاط الذي كان يدرّ آلاف المليارات على الشركة ومنها الى الرؤساء المديرين العامين والولاة الذين تداولوا على المسؤوليات في الجهة والذين كانوا من المساهمين الفاعلين في مدّ جسور السرقة لعائلة الفساد والاستبداد وذلك على حساب الحوض المنجمي وأبنائه الذين تم طرد بعض عمالهم بشكل تعسفي بتعلة التقليص في عدد العمال الذي سمّوه «تطهيرا» وكأن أولئك العمال كانوا شوائبا ويفرض منطق اللصوصية التخلص منهم ومن ابنائهم الذين رفضوا تشغيلهم حتى يتدحرج عدد العمال في شركة فسفاط قفصة من 14 ألفا الى 6 آلاف .. كما انهم خلقوا مؤسسات المناولة التي فاز اللصوص الكبار من عائلة الفساد بأكثر اسهمها فضلا عن تجاهل عنصر التنمية والحياة الاجتماعية في مناطق المتلوي والرديف وأم العرائس والمظيلة وأيضا الحياة الاقتصادية والثقافية... كما ان الهياكل أصبحت تضم في أغلبها عناصر لا ثقافة ولا إشعاع ولا مسؤولية غير مسؤولية المصادقة والافتخار بمصافحة (ر.م.ع) والوالي والمعتمد والوشاية عن التقدميين والمثقفين والشاعرين بأن الحوض المنجمي يسير من الوراء الى الخلف وبخطوات سريعة من أجل تضخيم ثروات البعض من اللصوص وبناء مدن أخرى (وخيرنا ماشي لغيرنا)... وللتاريخ فقط فإن الحوض المنجمي ومنذ سنة 1983 حين تمت نقلة الادارة العامة بتزوير مفضوح لقرار بورقيبة الذي نادى بتقريب الإدارة العامة من مناطق الانتاج بدأت تتجلى مؤامرات العصابة التي انصهرت في منظومة عصابة عائلة الفساد بعد 7 نوفمبر حين تم تعين رافع دخيل رئيسا مديرا عاما لشركة الفسفاط إثر إعفائه من مهمة ولاية سوسة حيث «غرف» بشكل مفزع بالتعاون مع بعض الذين دخلوا العصابة في شكل خلايا في مختلف أنحاء البلاد لتتضح النوايا ويتوغل المورطون في الثنايا وينال كل وحسب موقعه ومركزه ومسؤوليته نصيبه ومنابه وذلك من الوالي الى (ر.م.ع) وصولا للجنة التنسيق والمعتمدين والكتاب العامين للجامعات ورؤساء الشعب وبعض النقابيين أيضا الذين لا يمكن تجاهلهم وكل ابناء المناجم يدركون الحقائق ويعرفون كيف كانت أوضاعهم وكيف أصبحوا وماذا يملكون... والذين كلهم جميعا (أي كل تلك الأطراف) كانوا مورطين مع عائلة الفساد والاستبداد ويستمدون قوتهم من أفرادها ليبقى الحوض المنجمي وأبناؤه هم الضحايا وبالتالي كان لابدّ من الانتفاضة التي اندلعت سنة 2008 دون توقف وأركعت الرئيس المخلوع وأجبرته على الاعتراف بأخطاء بعض أفراد العصابة وبالتجاوزات التي برزت على مستوى نتائج اختبارات المعطلين عن العمل (ولا العاطلين كما يتردد في بعض الأوساط) قبل الاعلان عن بعض القرارات التي حرص من خلالها على محاولة ذرّ الرماد بها عساه يكسب الرهان.. ولكن الانتفاضة استمرت خاصة ان القرارات لم يتم تفعيلها وظلت حبرا على ورق لتتضح المؤامرة ومساندوها من «عصابة السوء» قبل ان تتحول الشرارة الى فريانةوالقصرين ككل ثم الى جبنيانة وبن قردان فسيدي بوزيد التي برز فيها الشهيد محمد البوعزيزي وكانت الفرصة مواتية لانتشار هذه الثورة التي اشتدت في القصرين وتالة والرقاب ومنزل بوزيان والمكناسي وتوزر وقبلي قبل ان تتحول الى صفاقس ومختلف الجهات الأخرى وصولا الى العاصمة التي تمت فيها عملية الاطاحة بنظام الفساد والاستبداد يوم 14 جانفي المجيد. وللتاريخ فقط فإن الحوض المنجمي الذي تم العبث به وبأبنائه وبمناطقه التي كانت في الفترة التي سبقت 1956 راقية وعلى سبيل الذكر ولا الحصر سمّوا مدينة المتلوي (Petit Paris) (أي باريس الفتية) ولكنها اليوم أصبحت وكغيرها من المدن المنجمية الأخرى مجرد قرى منسية من النظامين السابقين (بورقيبة وبن علي) لابدّ من ردّ الاعتبار له وذلك على كل المستويات التنموية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولابدّ أيضا من التأكيد على أن الثورة بدأت منه ومن أبنائه فضلا عن ضرورة محاسبة ومحاكمة المتسببين كلهم في سرقة ثرواته وتطلعاته وأحلام أبنائه خاصة ان عديد الناس من الرأي العام لا يعلمون حقيقة الأشياء ولا يدركون ان شركة الفسفاط تأسست سنة 1897 وكان الحوض المنجمي يحتضن أبناء مختلف الجهات الأخرى وحتى أبناء الدول المجاورة مثل ليبيا والجزائر والمغرب الذين كلهم توافدوا على هذه الجهة المنجمية بحثا عن العمل ووجدوا حظوظهم قبل 1956 وبعده قبل ان يصبح أبناء المنجميين معطلين عن العمل ولاهثين وراء الحياة الكريمة ولكن دون جدوى في ظل العصابات الخاضعة لعصابة الفساد والمتآمرة على الحوض المنجمي الذي لم يتم انجاز اي شيء فيه غير ثكنات «البوب» ومناطق الحرس الوطني والشرطة ومراكزها على مختلف اختصاصاتها وأصنافها حتى أصبحت الجهة بوليسية من أجل محاولة ترهيب المواطنين المناضلين وخلق روح الخوف فيهم ولكن دون جدوى أيضا طالما ان أبناء الحوض المنجمي تربّوا وترعرعوا على النضال والثورية والبسالة والشجاعة وإشعال نار الثورة في مختلف الفترات وعلى مرّ السنين سواء في الحركة الوطنية قبل 1956 او في العهد البورقيبي وعهد بن علي البائدين... وربما أيضا في العهد او المرحلة القادمة اذا تواصل التجاهل واللامبالاة وعدم الاكتراث لهم ولواقعهم ولآفاقهم وطموحاتهم وتطلعاتهم.