ليس من لحظة غير لحظة الثورة، تحوّل ما كان غير واقعيّ أي غير معقول بالأمس إلى واقع ومن ثمّ إلى معقول اليوم. وكأنّنا أمام امتحان للعقل نفسه. وليس من لحظة غير لحظة الثورة تقف بالإبداع أمام ضرورة أن يتغيّر ويتجدّد، بعد أن أصبح الشارع نفسه مبدعًا يتفوّق على مبدعيه إذا هم لم يُفلحوا في تجاوز أنفسهم. ومن الطبيعيّ بل ومن الضروريّ أن تمحو الثورة للحظة قد تطول أو تقصر المسافات الفاصلة بين الأدوار والمواقع. فمع اتّساع أفق الحريّة التي تتيحها الثورة يخرج الشعب من قمقمه، ويتمرّد على دور المستهلك السلبيّ الذي اضطرّ إلى لعبه، ويُسمِع صوته صارخًا أحيانًا، على قياس مرحلة الكبت التي عاشها، فإذا الكلّ يتكلّم وإذا الكلّ يكتب وإذا الكلّ يشارك في كلّ شيء. وكأنّنا أمام نصّ جماعيّ يتولّى الجميع تأليفه وإخراجه وتجسيده ومشاهدته في الوقت نفسه. لكنّ ذلك لا يلغي دور المفكّر والكاتب والمبدع بقدر ما يدعوهم إلى إعادة النظر في أدواتهم ورؤاهم، لأنّ أشياء كثيرة في قواعد اللعبة تتغيّر في الأثناء، لعلّ من بينها تعريف المفكّر نفسه، وتعريف الفنّان، ومفهوم المؤلّف والمبدع، وحدود مجالهما ودائرتهما في سياق التفاعليّة الثوريّة الحديثة وما لابدّ أن ينجرّ عنها من تفتيت لمنظومة الاحتكار. مع اتّساع أفق الحريّة التي تتيحها الثورة يجد الفنّ نفسه في مواجهة أسئلة الإبداع الحقيقيّة بعيدًا عن مرجعيّات التحايل على الرقابة والقمع. ينطبق ذلك على الفنون التشكيليّة والسينما والموسيقى وخاصّة على الرواية والمسرح اللذين يعرفان عادة حتى في أحلك فترات الاستبداد، كيف يقتاتان من قدرتهما على التلميح حيث لا مجال للتصريح. ومن الطبيعيّ في مثل هذه المراحل أن تشهد الساحة تخمة من الاقتراحات الفكريّة والإبداعيّة، على غرار المطالب والشكاوى والاحتجاجات. وهي نتيجة طبيعيّة لمراحل كبت المواهب وإلجام الأفواه. ومن الطبيعيّ أن نرى المئات وربّما الآلاف من المفكّرين والمحلّلين السياسيّين والمبدعين على غرار المئات وربّما الآلاف من الأحزاب والجمعيّات والفضاءات الإعلاميّة. وقد شهدت الثورة الفرنسيّة ظهور أكثر من 300 صحيفة في باريس في غضون ثلاث سنوات. تلك نتيجة الجوع الطويل إلى الحريّة وذاك برهان آخر على أنّ القهر السياسيّ والحرمان الاقتصاديّ كانا حرمانًا وقهرًا ثقافيًّا أيضًا. وليس من باب الصدفة أن نرى جهات البلاد الأكثر حرمانًا من الموارد الاقتصاديّة والاجتماعيّة هي الأكثر حرمانًا من الموارد الثقافيّة، من نفزاوة إلى سيدي بوزيد ومن القصرين إلى سليانة ومن بنقردان إلى بنزرت ومن غيرها إلى غيرها من شمال البلاد إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. إلاّ أنّ من المثير للانتباه أن يبدو الخطاب حتى الآن، وباستثناء قلّة قليلة من المتدخّلين، في غفلة تكاد تكون تامّة عن أهميّة البعد الثقافيّ في بناء تونس المستقبل. وهو في نظري تحديد متسرّع للأولويّات لا يقطع مع تهميش الثقافة واعتبارها يتيم العائلة. لقد حرص الاستبداد على تلهية المثقّفين بعضهم ببعض، باستثناء قلّة قليلة، كي تتحوّل كتابة بعضهم عن بعض إلى تنويع على تقارير البوليس، وكي يحترفوا النميمة والوشاية والاختصام في احتفاليّات البروباغندا السطحيّة، والانخراط في لعبة التخوين والإقصاء، والانتصاب الفوضويّ مثقّفًا أوحد، أو مبدعًا أوحد، أو بطلاً أوحد، في إعادة إنتاج للحاكم الأوحد. وهو خطاب من الضروريّ عدم استمراره اليوم باسم الثورة. وكم أتمنّى أن أرى أكثر فأكثر وعيًا لدى السياسيّين بأنّ رسم ملامح خياراتنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لا يمكن أن يتمّ بعيدًا عن رسم ملامحنا الثقافيّة بالمعنى العميق والواسع للكلمة، لأنّ تلك من هذه، ولأنّ القهر السياسيّ والتفتيتي الاجتماعيّ والحرمان الاقتصاديّ صناعة ثقافيّة بالدرجة الأولى، ولأنّ البعد الثقافيّ جزء لا يتجزّأ من مقوّمات بناء هويّة تعيد الشعب إلى نفسه في سياق عصره ومحيطه العالميّ.