نعم. يحق لنا الآن نحت هذا المصطلح بعد أن أثبت هذا الشعب إبداعية سياسية وإيتيقية لا تقلّ عمقا وروعة وفرادة عمّن أبدعوا الثورات الفرنسية والروسية والمكسيكية والهندية والفلسطينية: أسلوب جديد لم يعرفه التاريخ من قبل وأداء استثنائي وابتكار غير مسبوق لطرائق في المقاومة وفي التعبير الأعمق والأقصى عن الحرية والكرامة وإرادة الحياة. إن ما حدث في تونس بين 17 ديسمبر 2010 (إشعال الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده أمام مبنى ولاية سيدي بوزيد بعد أن ظلم وأهين ولم يجد من يصغي إلى احتجاجه ويمكّنه من استرداد كرامته المهدورة) و14 جانفي 2011 (تداعي مئات الآلاف من أبناء هذا الشعب العظيم إلى شارع الحبيب بورقيبة -وتحديدا أمام مبنى وزارة الداخلية الذي شكّل على مدى تاريخ البلاد رمزا مكثّفا لأقصى أشكال القمع والاستبداد- معربين عن إصرارهم على زوال الطاغية بن علي وأزلامه ممّن نهبوا البلاد اقتصاديا وفقّروها ثقافيا وأخلاقيا وإنسانيا على مدى 23 سنة من الحكم الاستبدادي البوليسي المافيوي المرعب)، ما حدث بين هذين التاريخين يرتقي إلى مستوى الحدث الفريد الذي يفتح في التاريخ الإنساني برمّته أفقا جديدا ويزعزع من ثمّة البنى الذهنية السائدة في التفكير وفي الفعل السياسيين على الصعد القريبة والمتوسّطة والبعيدة. وهو أيضا يحفّز-وينبغي أن يفعل- المفكّرين والمبدعين إلى تحليل مقوّماته ومكوّناته المتشابكة واستتباعاته العميقة على مختلف هذه الأمداء. بين التاريخين المذكورين تفاعلت جملة من الأبعاد وتراكم زخم ثوري أعظم دروسه هو أن الثورة التونسية (أولى ثورات القرن الواحد والعشرين) ستكون بلا شك نموذجا لكل الثورات المقبلة. لكن قبل التاريخ الأوّل كان هناك إرث تاريخي كبير منغرس في الذاكرة الأعمق (الواعية واللاواعية) لتراب هذه الأرض وفي المناطق الأبعد غورا لأجساد أبنائها. وكانت هناك في التاريخ القريب إرهاصات بشّرت بعد بهذه الثورة ومثّلت ضروبا شتى من المختبرات الفريدة الذي سيكون 14 جانفي اختزالا مبدعا لها وأفقا جديدا تتواصل بمقتضاه في القلوب والعقول والممارسات على نحو يجعل الذين أشعلوا جذوة الثورة ودفعوا بها إلى أعلى افتراضيّاتها هم أنفسهم حماة تلك الثورة والضامنون عبر تيقّظهم اليومي لعدم إمكان انقلابها على ذاتها وعليهم. فالتاريخ التونسي القديم قدّم نماذج في »الانتحار الاحتجاجي« بما هو تعبيرة قصوى عن رفض الكائن للحياة ذاتها إذا انتفت منها شروط الكرامة والحرية واحترام الذات لذاتها. علّيسة فعلت ذلك وصدربعل والكاهنة. وبالتوازي مع ذلك كان ثمّة دستور قرطاج الذي كان الأكثر تقدّما في العالم القديم بشهادة أرسطو. وبالتالي فإن الشاب الذي أحرق جسده بمدينة المنستير ومن بعده البوعزيزي وغيره من الشبّان في عدد من مناطق البلاد يضربون عميقا في الرمزية الإبداعية لفعل الانتحار ذاته ويتصلون ربّما دون إدراك واع بأجدادهم العظماء. وكم كان بالتالي مخزيا كلام المفتي حين دعا »الأفاضل« إلى عدم الصلاة على هؤلاء الشبان (أنظر فتوى الشيخ بطّيخ مفتي الديار التونسية، جريدة الصباح التونسية بتاريخ...) بعد ذلك بكثير (خلال القرن التاسع عشر تحديدا وقبل الاستعمار الفرنسي وحركة التحرّر الوطني) كانت هناك أيضا ثورة علي بن غذاهم الذي جعل من الفلاّحين الفقراء جيشا من الثوّار زعزع عرش البايات الذين امتصّوا طويلا دمهم وعرقهم بكافة أنواع الضرائب والجبايات وأهانوا أبناء البلاد عبر جعلهم أقنانا وخدما لدى الأسياد الجشعين وسلاطينهم الأتراك. وخلال دولة الاستقلال بفترتيها البورقيبية والبنعلية تلاحقت موجات من الحراكات الثورية في المعاهد والجامعات وفي الشوارع كما في الحركات الفكرية والأدبية والسينمائية وغيرها لتشكّل خميرة نضالية خصبة شكّلت عشية 14 جانفي تتويجا لها وسيشكّل ما بعده مزيدا من تعميقها. ولعلّ المختبر الإبداعي الأقرب إلى هذه اللحظة (من جهتي الشكل والمضمون) هو ذاك الحراك الثوري الزاخر الذي عرفته منطقة الحوض المنجمي والذي مازال وسيظل حيا في القلوب. فقد فاجأ شباب تلك المنطقة نظام الاستبداد البوليسي المافيوي بجاهزية عالية لكسر الحصار الإعلامي الرهيب الذي كان يضربه على الأنفاس عبر تصوير تونس على أنها نموذج يحتذى على مستوى النجاح التنموي والسياسي بل إنه كان يصوّرها على أنها الفردوس المفقود الذي تنشده الإنسانية جمعاء. كسر شباب المناجم ذلك الحصار عبر استعمال الهواتف الجوّالة وربطها بالأنترنيت والفايسبوك ومنها إلى الفضائيات ليرى التونسيون والعالم كله »تونس الأخرى« التي كان إعلام بن علي قد نجح حتى ذلك الوقت في إخفائها عن عيون السيّاح والمستثمرين الأجانب الذين كانت أموالهم تتدفّق في أرصدة العائلة وشبكة المنتفعين الواسعة التي أوجدتها حولها وليذهب بعض فتاتها إلى أفواه عدد كبير أيضا من أشباه السياسيين المتزلّفين والمناشدين و»المعارضين« الصوريين ومن القائمين على منظمات وجمعيات كان يفترض فيها أن تكون وطنية وأن تقف بالتالي في وجه الظلم والاستبداد. فبن علي وعصابته كانوا قد جعلوا من الفساد والإفساد نظاما قاعديا للتعامل مع كل الفاعلين السياسيين الاجتماعيين (من بيروقراطيات نقابية ومنظماتية وجمعياتية) وسيفا مسلّطا على رقاب هؤلاء بحيث يحجمون نسقيا عن أي احتجاج أو نقد حتى لو كان »ناعما« خوفا من »المحاسبة«، والأمثلة على ذلك كثيرة ليس المجال هنا لتعدادها. لقد بدأت حركة الحوض المنجمي اجتماعية طالبت عبرها جموع من الشباب المعطّل والمهمّش بحقوقها في الشغل والكرامة ووفرّت بوسائلها الخاصة شكلا من الإبلاغ كان نظام بن علي (ويا للمفارقة) يفاخر به. وأخذت الحركة الاجتماعية تلقائيا بعدا سياسيا أساسيا بعد القمع والتقتيل الرهيبين الذين ووجها بها وكذلك عبر الحزام التضامني الكبير الذي تشكّل حولها والذي تكوّن من جمهرات (multitudes) من النقابيين (قاعديين في معظمهم) النزهاء ومن الحقوقيين والسياسيين والمثقفين والإعلاميين والطلبة والتلاميذ في كافة أنحاء البلاد وحتى خارجها. ذات هذه التركيبة الثورية المبدعة هي التي سنجدها حاضرة بتفعيل أكبر وبامتداد أفقي أوسع وأشد تأثيرا في الثورة التي انطلقت شرارتها يوم 17 جانفي بين صفوف »أولاد الحفيانة« كما سمّاهم فريد العليبي (الأوان،...) . فالاحتجاجات الأولى التي ولدت فوريا من القهر الذي عاشه أبناء الجهة إذ رأوا جسد ابنهم يحترق من أجل الكرامة قد تمّ بسرعة تفعيله رغم الآلة البوليسية القامعة بشراسة مرعبة والآلة الإعلامية الرسمية الصامتة صمتا مجرما. وتشكّلت من ثمّة شبكة ذات امتداد أفقي يحاكي النجم في انتشاره تحت الأرض كما فوقها لتكشف للعالم المذهول واقعا يوميا شبه سوريالي لمناطق الداخل (البعيدة عن السواحل الذهبية والمنتجعات السياحية الضخمة) لم يكن »الشركاء« الأمريكان والأوروبيون يريدون فتح أعينهم عليه بسبب العمى الذي أصابهم من فرط تنويهاتهم الممجوجة بنجاح »النموذج التونسي« ومن فرط خوفهم المرضي من غول الإرهاب الذي أقنعهم »خبراء« نظام بن علي أنه حامي المنطقة من خطر انتشاره وهيمنته. ومن جديد التحق بالاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي احتجاج سياسي وإعلامي انشدّ من خلاله التونسيون إلى الشاشات الفضائية الأجنبية في ذات الوقت الذي كانت فيه تونس7 سيّئة الذكر تعرض صورا لم يعد يراها أحد عن »بلد الياسمين« وخطابات ساحرة »للدكتورة« ليلى بن علي الرائدة الجديدة لحرّية المرأة العربية ولتشغيل المعاقين بعد أن شغّل زوجها »الدكتور« بن علي كلّ »طالبي الشغل« من أصحاب الشهائد العليا وحتى السفلى. وهكذا توازى التحاق القواعد النقابية والنخب الحقوقية والسياسية والثقافية بتوسّع رقعة الاحتجاج إلى باقي المناطق مع تزايد عدد المنتحرين والمقتولين برصاص القناصة (المعدّين سلفا لهذه الجريمة القذرة) والمجروحين والمعتقلين. وبالتوازي مع ذلك أيضا امتدّ الانتشار »النجمي« لشبكة الإعلام النضالي عبر خروج أفواج جديدة من الشباب التلمذي والطالبي مخاطرين بحياتهم من أجل تغطية الاحتجاجات وعمليات القمع الرهيبة ولتتلقفها جموع غفيرة أخرى من »المنشبكين« وتبدع عبرها أشكالا جديدة من الاحتجاج الثوري داخل البلاد وخارجها. كما ظهر أيضا نوع آخر من الشباب الذي كان الجميع يحاول تجاهل وجوده. إنهم المهمّشون و»المنحرفون« من أبناء الأحياء الشعبيّة المفقّرة والمنسية والذين هاجموا بعنف رموز الثراء التي كانت تذكّرهم دوما بفقرهم وحرمانهم من بنوك وفضاءات تجارية كبرى كانت الأحاديث تتداول دوما عن فساد أصحابها وعن إثرائهم الفاحش والسريع. ولكنهم أحرقوا أيضا الرموز السياسية للنظام الديكتاتوري من لجان تنسيق وشعب وخلايا حزبية كانوا يدركون فسادها الكلي ومحسوبيتها ونهبها لأموالهم القليلة أصلا لصالح الطغمة العائلية الحاكمة. كما »انتقموا« على طريقتهم من مراكز البوليس التي كان ينكّل بهم فيها أثناء الإيقاف بعد معركة في حيّ أو انفلات بسبب »سكرة« أو مقابلة في كرة القدم. لقد أعطت هذه الجموع بكافة أطيافها وبمختلف التقائاتها المبدعة وعبر الثورة التي أنجزتها ومازالت تنجزها درسا بالغ القوّة لكل الدكتاتوريات الظاهرة والخفية في العالم كله ولكن أيضا للنخب السياسية التي مازالت تشتغل بالسياسة على نمط »ماقبل-ثوري« بالمواصفات التونسية. فهذه الثورة بمثل ما فاجأت الديكتاتورية (التي لم تقرأ لهذا الشعب ولقدراته على المقاومة أدنى حساب) و»شركاءها« في الشرق والغرب ممّن غضّوا الطرف عن معاناة التونسيين الرهيبة بفعل اعتبارات اقتصادوية وسياسيوية ضيقة ومحدودة الأفق، فاجأت أيضا الفاعلين السياسيين والاجتماعيين »التقليديين« من أحزاب ومنظمات واتحادات وجمعيات والذين من فرط ما تعاملوا مع السلطة الاستبدادية بالمساندة أو حتى بمختلف أشكال ودرجات الاحتجاج السلمي والإصلاحي قد استنسخوا (ضمن حدود متفاوتة) كيفيات اشتغالها وطرق إدارتها العلاقات بين مكوّناتها. فالطابع الهرمي والتراتبي والممركز هو الذي ميّز دوما هذه التنظيمات. والطابع الأبوي المشخصن هو الذي طغى عليها بحيث لم تكن في الغالب الأعم سوى إعادة إنتاج (وإن على نطاق ضيّق) للسلطة القائمة وللحزب شبه الأوحد الذي كان يهيمن عليها تحت قيادة »الزعيم الملهم« والقائد الفذ». والحال أن الثورة التونسية قد انبثقت وامتدّت على نحو أفقي مكّنها من تسفيه حسابات السلطة القمعية وينبغي أن يمكّنها في المستقبل من حماية منجزاتها الكبرى من مخاطر الثورة المضادة التي تتربّص بها في كل لحظة على أيدي المتسابقين إلى قطف ثمارها المباركة التي دفع الشهداء أرواحهم في سبيلها. من ثمّة جاءت ضرورة الإنصات العميق والمتروّي لمعاني وقيم هذه الثورة على نحو يرتقي بالفعل السياسي والاجتماعي والثقافي إلى هذا الأفق الجديد الذي فتحت عليه القلوب والعقول وعلى نحو يستجيب إلى تطلّعات الجموع التي أنجزتها. وعليه فإن أوكد مقتضيات الممارسة السياسية الثورية الجديدة هو أوّلا: القطع الموجب والفاعل مع الشكل التقليدي للفعل السياسي والاجتماعي والثقافي، ثانيا: الانفتاح الكامل على هذه الطاقات النضالية الثرية التي ظلّت حتى الآن مجهولة أو متجاهلة وهو ما يفسّر (جزئيا على الأقل) عزوفها شبه الكلي عن العمل السياسي، ثالثا: إبداع شكل جديد من الالتقاء والتنظيم يكون بدوره أفقيا أي منفتحا باستمرار على كل إثراء سياسي وثقافي واجتماعي ويمتد إلى كل الشرائح والطاقات المبدعة قاطعا مع الأنساق السلطوية المتحكّمة في معظم العقول والتنظيمات التقليدية ذات البرامج السياسيوية الآنية الرامية في الغالب إلى الانقضاض على المواقع السلطوية واقتسام الغنائم مع الاشتغال دوما حسب مقتضيات القيم المتداولة والمكرّسة، رابعا: المضي بهذه الرؤية نحو التقاءات موجبة وفعّالة مع كل الجموع المناضلة أفقيا في كل أنحاء العالم بحيث يتمّ إثراؤها بكل ما قدّمته وتقدّمه في مناهضة العولمة المتوحّشة وفي النضالات الثقافية والنسوية والإيكولوجية على نحو يصل تجربة الثورة التونسية بالإرث الثوري الإنساني بمختلف تعبيراته ويجعلها تسهم عبر تجربتها الفريدة في الحراك السياسي الإبداعي الكوني.