في نطاق الحديث عن العوامل الّتي ساعدت على إذكاء ثورة الكرامة والحرّيّة في تونس لا أحد يستطيع أن ينكر الدّور الّذي لعبته المدرسة في إذكاء نار الانتفاضة وتأجيجها أو يحجم عن اعتبارها إحدى الرّكائز الأساسيّة الّتي قامت عليها الثّورة فالأجيال الّتي عبّأت الجماهير في مختلف المدن والبلدات التّونسيّة وملأت السّاحات والشّوارع وواجهت رصاص الجبناء والعملاء والمأجورين هي الأجيال الّتي كوّنتها المدرسة وفتّقت عيونها وأبصارها والجموع الّتي وجّهت قوافل التّحرّر من الطّغيان وثبّتت أقدامها كلّما اشتبهت على النّاس المسالك والسّبل ونشطت فلول الردّة والانتكاس وضعف نبض الانتفاضة وخمد سعيرها معظمها من فئات الشّعب الّتي غذّتها المدرسة وتنسّمت في أفضيتها مبادئ المساواة والعدل والحرّيّة وحقوق الإنسان ونهلت أصنافا من المعارف وآيات من القيم الإنسانيّة وتعلّمت من شيوخها الأجلاّء ومربّيها الأفاضل معاني الصّمود والرّفض يوم كانت طوائف عدّة من أصحاب المصالح والامتيازات تبارك وتهادن وتساند وتناشد...ليس غريبا أن تتصدّر المؤسّسة التّعليميّة واجهة الأحداث وتشغل الرّأي العامّ الوطنيّ وتشهد أروقتها وزواياها ومحيطاتها نقاشات وصراعات متشنّجة أحيانا ممّا يؤكّد المنزلة الخطيرة الّتي تحظى بها وأهمّيّة الدّور الّذي تضطلع به في هذا المنعطف التّاريخيّ المفتوح على كلّ المنافذ والاتّجاهات. إلاّ أنّ المؤمن بريادة المدرسة أو المراهن على أهليّتها في قياد حركة التّغيير والإصلاح لا يمكن له أن يتابع ما يجري في هذا الشّأن دون أن يبدي جملة من الملاحظات للإسهام في تسييج الحوار الدّائر اليوم حول المدرسة وتفعيله حتّى لا يكون مجرّد كلام عشوائيّ تلوكه الألسن أو حديث أجوف عقيم. أولى هذه الملاحظات أنّ الخوض في قضايا التّربية والتّعليم والقوانين المنظّمة للحياة المدرسيّة يقتضي قدرا كبيرا من المعرفة والدّراية ويستوجب الخبرة والاطّلاع على المنظومة برمّتها. وكلّ من شاهد المنابر الإذاعيّة المتلفزة والدّردشات التّلفزيّة المذاعة تبيّن الكيفيّة الّتي تعالج بها المواضيع المطروحة على بساط الدّرس وموائد التّحليل وتكشّف عن حالة الضّعف والسّذاجة الّتي اتّسمت بها الحوارات والنّقاشات المبثوثة على قارعة الطّريق فنحن غالبا أمام منشّط لا يفقه شيئا في المسائل المطروقة ومسؤول لا يعلم علم اليقين بخبايا الملفّات والسّجلاّت المفتوحة. وكلّ ما في الأمر مزَقُ أفكار يتلفّظ بها المتدخّلون دون وعي أو رويّة ومزَعُ مواقف مقتطفة من هنا وهناك وغَلْثٌ بين المستويات والأحاديث الّتي كان الكلام يُلقى فيها جزافا دون ضبط دقيق لمراكز الاهتمام أو احترام لنواميس المدرسة وأخلاقيّاتها التّي خبرناها في الجامعة وحاولنا ترسيخها في النّاشئة والشّباب على امتداد عدّة عقود.. الأمر الثّاني الّذي يتحتّم علينا التّنبّه له وتوقّي أخطاره هو الأطر الحاضنة لجلّ منابر الحوار ولعلّنا لا نجانب الصّواب إذا قلنا إنّ القناة الوطنيّة 1+2 [والتّسمية احسبها مأخوذة من مجلّة الطّرقات] هي الّتي أحرزت قصب السّبق في هذا المضمار. واهتمام هذه القناة بالشّأن التّربويّ ليس وليد اللّحظة الرّاهنة فهي الّتي فتحت فتحا مبينا في مجال التّنشيط الإسفافيّ الّذي كان سائدا في ما غبر من الأيّام وهي الّتي كانت تستقدم بالحافلات جحافل التّلاميذ والطّلبة لتعلّمهم أصول التّصفيق وفنون التّملّق والتّزلّف والاستذلال تكريسا لروح المواطنة وثقافة الامتياز بالتّعاون مع المنظّمات الشّبابيّة والجمعيّات المرتبطة بأجهزة السّلطة الحاكمة. وهذه القناة لا يستطيع المرء الاطمئنان إليها وإن بدّلت واجهتها واستبدلت بعض وجوهها ووجهائها لأنّها مارست ضدّنا كلّ ألوان العنف والإرهاب منذ تأسيسها وأقرفتنا بتفاهاتها وترّهاتها وسلبتنا ولا تزال تنهب أموالنا في مطلع كلّ فاتورة ضوئيّة، وخير شاهد على ما نقول تلك الحصّة الّتي هيّئت للقذف والرّطن بمختلف اللّهجات خدمة لمكاسب آنيّة واستباقا لحملة لمّا يحنْ أوانُ استعارها وفي غياب سافر لجلّ الأطراف المعنيّة. إنّ الحوار حول المدرسة واقعا وآفاقا كان من المفروض أن ينطلق فور عودة التّلاميذ إلى المدارس والمعاهد وأن تشرف عليه الجهات المؤهّلة لذلك إذا كنّا نرغب حقّا في بناء أسس سليمة لعلاقات بين أعضاء الأسرة التّرّبويّة كافّة لا تقوم على التّباغض والاستعداء أو التّزيّد والاسترضاء.. ثالث الملاحظات متّصل بإحدى المثالب الموجّهة إلى الّذين تعاقبوا على وزارة التربية وتتعلّق بالآليّات وصيغ التّعامل وأنماط التّخاطب. كنّا نظنّ أنّ خطاب الوزير بعد الرّجّة سيختلف كلّيّا عن الخطاب الرّسميّ السّائد بل ذهب بنا الظنّ بعيدا ونحن نرى على رأس الوزارة إحدى الشّخصيّات المرموقة في مجتمعنا المدنيّ وأحد المختصّين في علوم اللّسان فخلنا أنّنا سنلحظ أسلوبا جديدا في التّسيير وتصريف الأعمال ومقاربات جديدة في التّحليل والاستقراء وطرائق مبتكرة في الإدارة لكنّ الرّياح جرت بما لا تشتهي الأنفس التّوّاقة إلى انطلاق نسائم الإصلاح الحقيقيّ من المؤسّسة الّتي كانت دوما في طليعة المجتمع وكانت وقود الثّورة وركيزة من ركائزها. ومن المفارقات العجيبة أن تهبّ هذه النّسائم اليوم من البؤرة الّتي كانت بالأمس القريب رمزا للقمع والتّخشّب والدّكتاتوريّة!