يبدو أن العقليات الموزونة والمؤمنة بالتناظر بين ذاك وذاك لا يمكن ان تفهم الثورة في تونس، ونتحدث فرضا دون تعصّب عن وزن أصبح فضفاضا وعن تناظر اكتفى بقشور لغوية لا تزال رغم ما حدث تبحث لها عن غلة حقيقية وذاتية عوض التجائها الى طرح اسئلة يحتاجها البلد. يبدو أنه لا يُفهم الى الآن أن ما حدث في تونس كان خارجا عن كل خطى خيول الخليل مهما كانت سريعة وعن شعرية انتهازية تأتي من قلم أو كأنه ضد النظام الموزوون المتهاوي، ها هي رغم ذلك تحشر خيولها فيما سيشبه السيل اللاموزون، صحيح أن الخيول وما في ذلك خيول الخليل تحسن العوم لكن الى متى؟ لو كانت الثورة التونسية خاضعة لأي قانون من القوانين الشعرية أو اللغوية او السياسية او الانتهازية لما حدثت ولما مثلت المفاجأة ولوجد النظام السابق مخرجا سهلا. سيذهب أصحاب الوزن الى أنهم هنا في البلد فقط من أجل أن يدخلوا في الميزان ما يحدث في الساحات، ناسين ان على الشعر اليوم ان يُكتب من داخل تلك الساحات وبايقاع انسان تلك الساحات. الايقاع سريع لذلك لن يكونوا قادرين على فهمه ولا على الكتابة على تواتره وتوتره. وقد يعود أوّلا الى رواسب العقلية الأبوية والتي ظلت قائمة على منطق الجيل وفكرة أسبقيتهم الساكن في أركانهم وهي لن تخلو بدورها من ديكتاتورية الديكتاتور السياسي. لم يكن بن علي الديكتاتور الوحيد. فما يفعلونه اليوم يبدأ بالتبرؤ من دكتاتور واضح للحقبة المنهارة. فلا يد لهم في أي جيب ولا فم لهم في أي صحن من صحون النظام المخلوع، ثم يتبنون ما حدث ويمتصّون ماء خصوبته فيجدون في الخضمّ أماكن لا تختلف عن أماكن شغلوها ما قبل الثورة. طبعا نحن أبعد من أن نتوخى عقلية الديكتاتور فنبيح حرمانهم من غيمة جادت فوق كتفي البلاد، لكننا نرفض والقارئ قد يتفهمنا أن نرى أولئك اوصياء على غيمة تكونت من تصاعد بخار حرارتنا في الساحات ومن نبات سقيناه من حبّات عرقنا البرّاقة والتي لن يصمد أمام بريقها من قصر نظره. نتحدث عن مثقف عاش على إدّعاء اسمه المعارضة، فيصف المعارضة السياسية بالكرتونية ويستعد ان يلحق معارضته الشعرية والثقافية وغيرها بدكاكين الذهب ليبيعها «غرامات» ثمينة. هل كان هؤلاء مختلفين على المثقف الواضح الذي يتقاضى أجره علنا من مائدة الديكتاتور؟ نعم! سيكون الاختلاف على مستوى الوضوح لا اكثر لأن هؤلاء وعلى عكس أولئك الواضحين يتناولون أجرهم سرا من تحت مائدة الديكتاتور، لا نيّة لنا في تمجيد الاول لوضوحه ولا لترك الثاني بلا إصبع اشارة. سنلحظ اضطرابهم الذي لا يكفّ، يسكنون البارات والصخب ويقودون جيشا من التشيزوفرينية «الايطيقي» في الشارع، حتى أنهم أثروا على الأعمال الدرامية التونسية التي لم تتعلم بسببهم ذكر المثقف بخير لا سيما الشاعر صاحب الوجه المصفرّ. هو المضطرب المنتظر لوحي نصّه والباحث عنه من مومس الى أخرى او من كرسيّ الى آخر ومن جيب الى آخر وذلك في شارع الحبيب بورقيبة الشارع الذي أسقط الديكتاتور السياسي ولم يسقطهم رغم ذلك، ولم يسقط منهم عقلية اختلاس المكان والمكانة، كيف يمكن ان يكون ثوريا كل من كانت موادّه المخادعة تنزل في منابر يملكها الديكتاتور السياسي؟ كيف يمكن ان ينصبّوا على الثورة وحماية ثقافتها وشعريتها وقرائحها وتنسيق برامج ملتقياتها ولم يكونوا قادرين على تنسيق آرائهم الخاصة؟ كيف يمكن لنا اليوم قبول اي وليّ صالح ليسيّر وفق انطباعاته واطلاعاته ان سمحت السكرة والأخرى أيّ برنامج أو ملتقى منبثق على الهواء الثوري الجديد؟ هل يمكن لعقلياتهم استيعاب ارادة تجديد دماء الثقافة التونسية؟ عقلياتهم التي مثلت شخصيات معارضة في مسرحية الديكتاتور الطويلة لتبايعه في الكواليس وتتقاضى أجرا متراوحا بين الصفعة والدينار! لنا ان نأخذ مثل الشاعر التونسي الصغيّر أولاد أحمد، وليبح لي المحرّر والقارئ ذكر الاسم فلا مكان لأن ندسّهم في استعارة أخرى وفي غموض آخر، فأولاد أحمد الذي يكلف اليوم لسبب ذاك الغموض على مناصب سياسية في هيئة حماية الثورة التونسية وغيرها وعلى مناسبة شعرية هي الاولى من نوعها «تونس الشاعرة» والذي في نهاية المطاف يخرج من الحقبة الثورية نجم ساطع ينير نجمه في ليل غموضه، اللهم لا حسد. هذا اسم تعود على ما يبدو على الاستفادة من بدايات المراحل، فقد ولد مع بداية مرحلة بناء الدولة الحديثة على أنقاض المستعمر الفرنسي، كما كان أول مدير لبيت الشعر وباعث له في الحقيقة وشكر اللّه سعيه في بداية مرحلة ما سمي بالتغيير، ليقول في شهادة منشورة عن موافقة دولة بن علي وبالحرف الواحد «وقد تم الأمر في وقت قياسي، وهذا وحده كاف لتشريف الشعر والدولة معا... إذ لا أحد منهما مطالب بعد الآن بأن يكون عبدا للآخر أو سيدا له». طبعا، سيكتنف جملته الغموض الذي مثل طريقته في بلوغ قاري باحث عن أي كلمة بعيدا عن كلمات خشبية تطبع التابعين الواضحين. وإن لم يكن من يومها أحدا سيدا على أحد فلأن الثاني أي الشعر قد محي تقريبا ولم يعد مطالبا حتى بالوجود. هل يعود الذنب وحده الى الدولة؟ هل نجيب؟ يكفي أن نقول إن مدير بيت الشعر الأول المنسحب سريعا بادّعاء الديمقراطية قد غرق بعدها في الخدر وفي قطع الشارع بلا دليل ليرسّخ من يومها صورة الشاعر المشرّد والنص المشرّد الذي أطرد القارئ نهائيا من أبواب المكتبات. وقد نضيف الى أن عبثية الحياة التي قادها مدير بيت الشعر المتخلي عبثية لم تكتف بأن تلازم شخصه فهو حرّ وحرّ بل كانت ما يشبه إشهاره الخاص لذلك التصقت بقشور لغته ولم تنجح حتى في الذهاب إلى عمق ما، وليعلم المدير الشعري المتخلي أو ربما لا يعلم أن نسخا له بعد ذلك قد طبعت وقد عجنت بأشياء الثقافة المتمشية كما يتمشى المتسكّع. ونركز على وظيفة «مدير بيت الشعر» التي لن تكون بريئة ولا خالية من سياسة ولا معارضة لديكتاتورية مثل التي كانت لبن علي. ولفاهم أن يفهم ويتفهّم كتابتنا لهذه المادة. ألم يكتب في أقرب مجلة الى قلب بن علي الملاحظ نصائح الى كتاب شباب تونسيين؟ ألم يقل لا تبدأ جملتك أيّها الشاب ب«إنّ» التقريرية حتى يغرق الشاب في نحولة ذاتية، ألم يدعوه بذلك الى الدخول على منواله في ما يشبه الهذيان اللغوي؟ ألم تتكاثر «الكاريكاتورات» الشعرية المتشبهة به وبغيره؟ وعرضا لا أكثر، ماذا عن حب البلاد الذي لضرورة الوزن لا أكثر قد ترسخ في أذهان الناس «يوم الأحد». كان من الممكن أن يكتفي أولاد أحمد بأن يكون الخطيئة أو أبي العبر الهاشمي الراسم على كل الثغور بسمة أو غيرهما أو أفضل منها حتى، لكنه اليوم يسقط دونهما ودون غيرهما بأن يدّعي أبا المتنبي في تنسيق الأشياء. هل يمكن للخطيئة أن ينسق مهرجانا شعريا منبثقا عن الثورة التونسية وأن يحمي الثورة مع العلم أن الخطيئة من القلائل العرب الذين هجوا أنفسهم والذي كما أتوقع لن يقوى على الدعوة صراحة في فيدوات فيسبوكية على العنف والتهديد بحث قبائله في سيدي بوزيد بالخروج شاهرين أسلحتهم. لا الخطيئة ولا المتنبي ولا غيرهما بقادرين على استيعاب ما حدث من تونسيين «طلقة واحدة» لا من مدّعين لتلك الطلقة. كيف للشاعر الذي وسّع الهوّة بين الشعر والشعب أن يستفيد اليوم من واحد من أولئك الشعب الذي منح جسده قربانا للنار وللثورة التونسية التي اندلعت نارا على نار احتراقه؟ ألا يشبه الأمر كتابة أولاد أحمد عن رائحة شواء البوعزيزي على أنها رائحة عطرة وعلى أنه يتمنى لو تبقى في أطراف حاسة شمّه للاستفادة أكثر؟ كيف لعقلية قبليّة بدت واضحة في أولى أيام الثورة عبر قصيدة اكتسحت انطباعية الشباب الباحث عن الكلام الذي يبدأ ب«آن لي أن أختار ما بين موطني ووطني»، موطنه سيدي بوزيد أين يلمع «محمد بوعزيزي» ووطنه الذي هو تونس؟ كان من الممكن أن نصمت لو ولّي واليا على سيدي بوزيد أو نظم «بوزيد الشاعرة» لا أن ينسق شيئا وطنيا ثقيلا في الوطن الذي كان يقول هو ولا أحد غيره «الثاني أي الوطن افتكّ ما لم يطلب» الوطن من الصغير أولاد أحمد وهو هنا وهناك من كل المنابر خاصة التابعة للنظام والأنظمة الأخرى هي في طريقها الى السقوط؟ هل كان بن علي يصاب بالديمقراطية ما إنّ خصّ الأمر أولاد أحمد؟ هل أسقطنا نظاما ديمقراطيا سمح لأولاد أحمد كحالة خاصة أن يهذي تحت مسمّى «حرية التعبير»؟ هل ظلمنا بن علي؟ هل يعرف أولاد أحمد كيف كتب بين الغازات والدمعة السائلة تونسيون لم يظهروا في أي منبر من المنابر التونسية على مدى سنين حكم المخلوعين؟ أيّ قيادة شعرية قادت الثورة والتي لا يكف أن يدّعيها شاعرنا؟ هل هي السطور الشعرية الراكضة في خلاء «بوزيد» أم هي قصائد أبي القاسم الشابي التي عادت لألسنة الشعب، أبي القاسم الشابي على وأنه إلا أنه كتب بصدق من وسط «الداء والأعداء»؟ سنحتاج أن نذكر أولاد أحمد وغيره من مثقفين قطعوا نفس الطريق الجانبية لمدينة بن علي الفاضلة ونحن لا ندعوهم الى الموت طبعا بإبن قبائل أولاد أحمد، البوزيدي «رضا الجلالي» الذي مات متأخرا بالايطيقيا، الجلالي الذي قد يمثل واحدا من أثاث نفس البوعزيزي الرافضة لأي نوع من أنواع المهانة كما رفضها الجلالي المتخلي عن الحياة غير بعيد عن اتحاد الكتاب الذي سدّ في وجهه كل باب. البوعزيزي الذي التجأ الى النار مدفوعا بالصدق لا بادّعاء الاحتراق. سنحتاج أن نذكر أولاد أحمد الى سحب قيادته الى «الأول، الذي هو أول بالفعل، اسمه: «سيدي بوزيد» وأن يترك الثاني، الذي كان يمكن أن يكون أول، اسمه : «تونس» لغيره ممن لم يسع الى تعميق خطوط الخريطة التونسية نسجا على منوال النظام السياسي المخلوع. لا بدّ من أن نسوق أخيرا ملاحظة أن المادة لم تكتب إلا بدافع وطني فذاتنا لو كانت دافعا في يوم من الأيام لاتخذنا الطريق الواضحة المؤدية الى أعلى مائدة بن علي أو الطريق الغائمة الموّدية الى ما أسفل طاولة بن علي. الاهداء لما كان يمكن أن يكون عليه الشاعر الصغير أولاد أحمد لولا ما سيأتي في مقالتنا