مر عقدان منذ تركت تراب الوطن، تعايشت معها بحلوها ومرها،لم انس فيها يوما اني تونسي على الرغم من الأسباب الموضوعية التي حالت دون تواصلي مع بلدي، كنت أحلم على امتداد هذه السنوات الطويلة باليوم الذي ستطأ فيه اقدامي أرض الوطن، لم افقد الأمل لكن كنت أرى ضوءا خافتا يغطيه سحاب كثيف يحجب سماء تونس، قطع معه كل بصيص امل يلوح في الافق. ظلت العودة حلما بعيد المنال مع جود استئصاليين واقصائيين وانتهازيين يسدون كل طرق الانعتاق للشعب التونسي، ولكن هذا لم يفقدني الأمل يوما في أن مصير الجبارين واحد وهو الهلاك وان انحنت له الشعوب مؤقتا، مستحضرا وعد الله وقدرته في نصرة امهات بواكي على فلذات اكبادهن، ودعاء مظلومين، وحرمان اطفال أبرياء من لذة العيش الكريم، وصرخة شباب عاطلين. ظللت خلال العقدين اتنقل بين دول العالم حاملا الأمل معي حيث ما حللت ، غير يائس منتظرا اليوم الموعود لذهاب الطاغية، أملا في رؤية تراب تونس ورؤية الاحبة، كنت أتجنب الكتابة باسمي في كل ما له علاقة بتونس، حرمت من الحديث الى اقرب الناس اليّ مخافة تعريضهم الى سياسة قطع الارزاق والمساءلات الامنية والتهديدات التي انتهجها النظام البوليسي في تونس. بجهد واصرار تمكنت في اواخر 2008من استدعاء الوالدين الى هولندا وقد أخذت منهما السنين مأخذها ، وبدا عليهما الوهن والكبر، حدثاني عن أجواء الاحباط التي أحاطت بهما وما نالهما من تنكيل الاجهزة الأمنية المختلفة والتضييق على مصادر رزق كل من له صلة بعائلتي ، وأصبح مدانا من يتحدث اليهما مما جعلهما يعيشان في سجن تونس المفتوح. كان لهذا الحديث أثره العميق علي، أحسست أن غيري يعاقب بجريرة هجرتي من تونس أو شيء لم اقترفه، قررت مباشرة التوجه الىالمصالح القنصلية في السفارة التونسية بلاهاي، وطلبت حقي في الجواز مقدما لهم معلومات عني علهم يقللون مضايقاتهم عن أهلي، بعد انتظار دام اشهر تلقيت منهم أنه يمكنني العودة فقط ببطاقة مرور وليس جواز سفر مع خلو الردّ بحسب الموظف في القنصلية من أي سبب لقرار الرفض. ظللت احاول ابقاء علاقتي بالسفارة حتى أعرف السبب ويخففون من مضايقاتهم لاهلي، وفي كل مرة يقترحون علي اجراء جديدا من مراسلة الرئيس ووزير الداخلية، الى الامضاء على بيان العبعاب أو التبرأ من الانتماء الحزبي في بيان علني ظللت أرفض المساومات في مقابل حق الحصول على الجواز، كنت دائما افكر ان قدر لي وحصلت على الجواز في ظل الوضع الامني لنظام بن علي ماذا أنا فاعل ? وأي طعم لهذه العودة? وكيف ساعود وأنا أعرف أن الاجهزة الامنية القائمة ليس لها عهد ولا ميثاق? وشاءت الاقدار وذهب بن علي ولم يصل جواز المهانة. في الرابع عشر من جانفي 2011 كان يوم عيد ميلاد، ككل مرة كان ابني الياس وايهاب يتنافسان لتقديم أجمل الهدايا لي بهذه المناسبة ، كنت يومها أعيش على أجواء ما يدور في تونس ، لم اتطعم الهدية على قيمتها مستبطنا أن تكون هديتي هذه المرة تحرير تونس من الطاغية، خاصة أني لمست يوم 13 جانفي من خطاب بن علي ضعفا لم أعهده فيه قبل ذلك وكان التوجه الفايسي نسبة الى ال «فايس بوك» يتجه نحو نهاية بن علي وابلغني من أعرف من داخل تونس ان اليوم الموالي سيكون يوم الاعتصام العام ينتهي بالتوجه الى قصر قرطاج ليكون ذهاب بن علي دون رجعة، لم ابرح يومها شاشة التلفزيون والانترنات، أتقلب بين القنوات والمواقع واسهم مع غيري في بلورة رأي عام ينهي مع الديكتاتورية دون رجعة. بمجرد معرفة أن بن علي هرب، امتزج الفرح بالخوف، فبقدر ما كنا نتوق الى التخلص من طاغية جثم على صدور الناس اكثر من عقدين كنا متخوفين من ان يبقي اذنابه ليواصلوا الطريق بشعارات براقة كما فعل هو بعد سقوط بورقيبة، اسقط التونسيون بن علي في هذه المرة وظلوا متيقظين الى أن سقوط بن علي لا يعني سقوط الديكتاتورية رافعين شعار لا يلدغ المرء من جحره مرتين، وباعتقادي فان الثورة كانت ثورتين، ثورة اعادة الكرامة وثورة المحافظة على اعادة الكرامة. قررت يوم 22 جانفي العودة الى تونس بعد أن حصلت قبلها بيوم واحد من المصالح القنصلية على الجواز الذي انتظرته لسنوات لاحصل عليه في يوم واحد، ركبت الطائرة متجها من امسترادم الى مطار تونسقرطاج، كانت رحلة عبر الخطوط الجوية التونسية التي وطئتها اقدامي لاول مرة في حياتي، في المطار وانا أتجه الى الباب الخارجي لم اسال بغير ما سؤل به أي زائر لتونس غير ما همس به لي أحد الموظفين مزحا أن لا أذكر الجزيرة كجزء من عملي الصحفي. كان في استقبالي حوالي 100 شخص فقط من العائلة الكبرى لم استطع ان اتمالك نفسي وانهارت الدموع وتعانقنا طويلا في جو من الزغاريد والنشيد والفرحة، في هذا الجو المشحون بالفرحة التقيت بمراسلة قناة حنبعل في المطار وسالتني عما احسه وانا على تراب الوطن بعد طول غياب? فلم أجد الكلمات كافية للتعبير عما أحس به سوى أن أنزل ساجدا مقبلا تراب تونس العزيزة، رافعا رأسي حامدا الله انها سحابة انقشعت عن سماء تونس. ركب المستقبلون سياراتهم متجهين الى الشمال الغربي الذي لا يقل تهميشا عن المناطق الغربية من الجمهورية التونسية الاخرى، عندما اقتربنا من مسقط رأسي في قرية دجبة القريبة من معتمدية تيبار ولاية باجة علت مزاميز السيارات مدوية وجابت القرية الجبلية، ليخرج الناس في الشوارع محيين عودتي. ونظرا لإرتباطاتي لم تدم الزيارة سوى اسبوع واحد ، لم استطع خلال هذا الأسبوع مغادرة القرية بل البيت ، مستقبلا الزوار والمهنين بالعودة ، الذين لم تفرغ منهم البيت على امتداد الأسبوع، كان الجميع يروون قصصهم وما حصل لهم مع النظام البائد، الكل يشتكي القهر والظلم، الشاب والشيخ ، الأستاذ والتلميذ، عون الأمن والسجين ، العمدة ورئيس الشعبة ، الحزبي والمعارض ، القريب والبعيد ، كل يشكي حاله، وهو ما تستشفه من أن الجميع كان محكوما بقبضة من حديد، الكل يتنفس الصعداء ويقول إنه كان يحس ان نظام بن علي البوليسي ظل جاثما على صدره، ثقلا ما استطاع تحمله واجبر على معايشته مكرها، لقد رأيت الدموع تسيل مع ذكر اسم الرئيس الراحل « بن علي» ليس حزنا عليه ولكن فرحا لذهابه، لقد عايشت رحيل بورقيبة في 87 وبكاه كثير من الناس وخاصة الكبار من التونسيين معتبرينه أب الجميع. كم هو جميل ان تشعر بذاك الشعور الذي يحس به أي تونسي من أن تونس اصبحت لكل التونسيين، سمعت المواطن التونسي يتحدت عن أنه مستعد أن يجوع وأن يتعرى في مقابل أن ينال كرامته، كم هو جميل أن تسمع التونسي يتحدث بتلقائية دون خوف ولا«حقرة» ولا احساس بنصف المواطنة وثلث المواطنة التي ولدها الاستبداد والتمييز، كم مرة سمعت الناس يرددون « اذا الشعب يوما اراد الحياة» كم مرة سمعتهم يرددون معي وعلى قلب واحد « بلادي وان جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام» كم هو جميل عندما ترى الطفل الذي كان بالأمس القريب يدخل المدرسة أو المعهد مباشرة بعد تحية العلم هو اليوم يسابق اقرانه لتحية العلم معتزا بنشيده الوطني. بقلم نصر الدين الدجبّي