بقلم الموسيقار: د. محمد القرفي يقال إن عنترة العرب توفي فوق حصانه وهو ممسك رُمحه. وظلّ على هذا الوضع وأعداؤه يرقبونه من بعيد كذا يوما خائفين حتى نخر الدود عصا رمحه فتكسّر ووقع على الأرض. حينئذ صدّقوا أنه مات دون شكّ ولم يعد منه خوف ولا هم يحزنون. هذه الأسطورة نسجها المخيال الشعبي على منوال قصة النبي سليمان الذي مات من قبل جالسا على عرشه وممسكا صولجان الحكم حتى بعث اللّه لعصاه سوسة قامت بما يلزم. ونرى هذه الصورة تتكرّر اليوم بكامل عفوية لتثبت أن فكر الخرافة والأساطير لا يزال يعشش في الخيال الشعبي البسيط. فقد أسرّ رجل من العامة أن زين العابدين بن علي لم يهرب وأنه مختبئ في بعض الأماكن وسوف يعود حتما وينتقم منّا. ويرى أن المندسّين في صفوف الشعب من عصابات تنغّص عليه حياته خير دليل على ما يقول. الى هذا الحدّ يمكن اعتبار هذا الكلام من هوس العامة في الأوقات الصعبة لكن أن يطلع عليك في التلفزيون مسؤول جديد ليقول لك إن بن علي لم يهرب ولكنه غادر البلاد رئيسا رفقة زوجته وابنه وابنته فهذا أمر مُريب نستشف منه إيحاءات ضمنية أكثر خطورة وهي أن ما وقع بعد سفره «البريء» قد يعتبر أمرا خارجا عن القانون وربما يستوجب تصحيحا في الاتجاه المعاكس. وفي اعتصام لطلبة معهد الفنون الجميلة قالت لهم المديرة السيدة آمال حشانة إنها لن تستقيل ولن تخرج إلا بقرار من وزير التعليم العالي وأضافت: في نهاية الأمر أنا تجمّعية وكل الإدارة التونسية «تجمّعية» وإن مغادرتي لهذه المؤسسة ستكون الى مؤسسة أخرى في إطار التداول على المسؤوليات. بمعنى آخر: إنّا هنا باقون فلْتشربوا البحرَ (مع الاعتذار لمحمود درويش). يبدو أن الوضع ليس بالسهولة التي نتصورها فالغول فرّخ أغوالا أو بالأحرى «مستغولين» بأنفاسه وزرعهم في كل مكان من أجهزة الدولة ومرافقها العامة ناهيك أن الحاجب لا يقع تعيينه إلا إذا وافق عليه القصر إضافة الى دعم «الجهوية» المعلنة والخفية والتي لا تزال تنخر جسد الأمة. لا غرابة إذن أن يعود من جديد من كانوا البارحة يؤلهون الطاغية ويرفعونه الى مرتبة «زرادشت» نبي المجوس أو «كونفيثيوس» حكيم الصين. هؤلاء المتعلمون والمتحذلقون وأشباههم صار بعضهم من كبار المنظّرين لعهده والمفسّرين لأقواله والطامعين في وزارة من عنده وكان يُسيّرهم عقل مدبّر تخفّى اليوم من قصاص الثورة فيُجازي «النجباء» منهم و«يركّبهم» على الأكفاء الشرفاء دون حق. هؤلاء الذين تشبّثوا بذيله وتنمّروا بظلّه وعبثوا بالصالح العام رسّخوا في أذهان الناس شعورا مستقرا بأن الرجل سيدوم عهده وأن نسله سيتولى من بعده وأنهم سيظلون فوق الآخرين الى يوم الدين. كانوا يعملون على أن لا تخلو تظاهرة من صوره معلّقة فوق رؤوس الناس ترقبهم مثل سيف «ديمُقلاس» ولا تخلو مجلّة فكرية من افتتاحية تتضمن جملا منتقاة من خطبه العصماء التي نعرف من كان يُحرّرها. يضاف الى ذلك وابل المقالات التمجيدية الموثقة التي كان يحبّرها «متدكترون» من أمثال محمد زين العابدين (مدير مشروع مدينة الثقافة) ومنصور مهني (مدير لابريس قبل أن يسقط) وآخرون ممّن ساهموا في تحرير كتاب «لهاذا نريد الرئيس بن علي» الصادر عن دار الحرية عام 2008 أمثال مصطفى عطية (مدير الدار العربية للكتاب) الذي صار اليوم يكتب عن الثورة وعز الدين العامري الذي عيّن حديثا مديرا لإحداى الاذاعات. ونتذكر في هذا الصدد افتتاحية جريدة «لابريس» الصادرة صباح 7 نوفمبر 1987 والأخرى التي تصدّرت العدد الخاص من الجريدة مساء نفس اليوم وكلتاهما لصلاح الدين معاوي. فبقدر ما كانت الأولى تمجد الرئيس بورقيبة كانت الثانية «تكشمر» القديم وتمجّد القادم الجديد فأسمينا صاحبها «بوروحين» لأنه انقلب على نفسه دون أن يفقد توازنه. يظهر أن أرضنا خصبة تتكاثر فيها فصيلة البوروحين وملعب أمين للبهلوانيين.