٭ حوار: فاطمة بن عبد الله الكرّاي ٭ تونس «الشروق»: وقع ترحيله بداية التسعينات من وطنه تونس.. هو في الأصل جزائري وتونسي.. امتشق «سيف الحق» عبر المحاماة.. وتمسّك بالقلم في الصحافة من أجل الدفاع عن الفكر الحرّ.. وليس رداء الديبلوماسية (مبعوث الجامعة العربية) حتى يعلو صوت العربي في المنتديات الدولية، على الوجه الذي يريده ويسعى إلى تأمينه شرفاء هذه الأمة.. الأستاذ علي الصالح بن حديد ولد بتونس، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعات باريس.. والجزائر.. أما القانون فقد نال شهائده من جامعات سويسرا والجزائر.. لم ينتم إلى أي حزب سياسي.. مؤسس المنتدى الاقتصادي المغاربي.. يقول «سي علي» وهو يختم هذا اللقاء الذي خصّ به «الشروق»: ما حزّ في نفسي وأنا أعود إلى بلدي، وقد «وجدتهم» قد استولوا على أملاكي، ثلاثة أشياء: أولا: مكتبتي التي سرقوها، بعد ترحيلي، وكانت تحوي ألف كتاب.. من عيون الكتب والمؤلفات المتميزة في العالم.. فيها عناوين لا توجد الآن..! ثانيا: باعتبار أنني كنت عضوا في النادي الدولي لكبار الرحالة، كانت عندي ذكريات من كلّ بلد.. ولم أجدها.. ثالثا: كان عندي مصحف بخط اليد ورثته من جدي.. فلم أجده أيضا..! هذه النقاط الثلاث أثرت في أكثر من استيلائهم على ممتلكات شركتي وسياراتي وبقية أملاكي.. يقيم في سويسرا، قدم منها مزهوّا بالثورة ومعتزا بها وبمن شارك فيها، وسألني في البداية عن المرحوم العميد صلاح الدين العامري.. وترحّم على روحه. ومتحدثا عنه بابتسامات متقطعة، بروح الأسف.. قبل أن يسمع سؤالي الأول، والذي جاء كالتالي: ٭ أستاذ علي بن حديد، رجعت من المنفى إلى تونس وواكبت فترة ما بعد الثورة.. كيف تنظر إلى ثورة تونس ضد القمع والفساد، وكيف تقيّم المشهد السياسي الآن، وأنت الذي رُحّلت في عهد بن علي من أجل أفكارك؟ هي ثورة جديدة ومتجددة بجميع المقاييس، وهذه ليست عبارات خشبية. التاريخ سيشهد أن هذه الثورة، ثورة الشباب، متحضرة بطريقة ملفتة.. واعتمدت على مواكبة العصر في علم الاتصال ال(فايس بوك والأنترنت) مما يدلي بنضج ومستوى ثقافة الشباب التونسي وانفتاحه.. هذه الثورة كانت أيضا نتيجة الكبت وكلّ ما هو كبت يولّد الانفجار.. وليس هناك أخطر من أن يلتقي الكبت والظلم والجوع.. بعد هذه الهبّة الثورية التي غيّرت كل الأدوار والمعطيات السياسية والديبلوماسية، أصبحنا وكأننا في زوبعة اختلط فيها الحابل بالنابل، وأخشى أن تعصف ببلادنا رياح الانفلات.. والفوضى.. كأن الحكومة المؤقتة، ليست لها بعد خارطة طريق واضحة لفترة انتقالية، وهي ليست سهلة، والتي تكتسي أهمية قصوى، باعتبار أنها الأساس لإرساء البنية التحتية.. لديمقراطية الأجيال التونسية القادمة. ٭ ألا ترى أن هناك فجوة الآن بين شعارات الثورة النبيلة، وبعض الممارسات التي يسعى أصحابها إلى التموقع في غير المواقع التي يستحقونها؟ المطالب كثيرة.. والكبت المشار إليه جعل الناس يتكلمون أكثر مما ينصتون، وهذا مفهوم في هذه الفترة الانتقالية.. غير أنني أوصي بالتعقّل، أقصد شبابنا والتحلي بروح المسؤولية باعتبار أن الحكومة المؤقتة لازالت هشة وكل بناء صلب يستوجب جرعة من الصبر، خاصة أننا تحلينا بالصبر طيلة 23 سنة، فمن باب أحرى أن نطالب ونصبر لمدة ستة أشهر أو سنة لتحقيق الخطوط الكبرى في هدوء ومسؤولية. ٭ ما المطلوب لارساء الثقة بين أي حكومة، وليس القصد هذه بالذات، والشعب المفعم بالثورة.. ثورة تحمل مطالب أساسية لا رجعة فيها؟ كل ما هو تردّد يولّد أو يزرع بذور عدم الثقة هذه الحكومة تردّدت على سبيل المثال في تسمية بعض الموظفين السامين بمن فيهم الولاة الذين لهم (أو بعضهم) باع في الفساد والاستيلاء على الحريات سابقا. وهم في حالة رفض من الشعب، فهؤلاء هم أصلا مرفوضون في الماضي من الشعب فكيف تعيدهم إلى سالف نشاطهم.. من جهة أخرى لا يمكن للمستثمرين أن يعودوا سواء منهم التونسيون بالخارج أو الأجانب، دون تأمين الاستقرار، لأننا كما نعرف، رأس المال جبان.. يذهب حيث الاستقرار. مثلا سويسرا هذا البلد الفقير في الموارد الطبيعية، توصل إلى أن يكون قبلة المستثمرين ورؤوس الأموال، استقرار هذا البلد، عبر التاريخ.. وهو استقرار مشهود.. ٭ أنت من التونسيين الذين لهم رأي وخيار سياسي يهمّ البلد، وأمثالك كثّر، كيف ترى طريقة العمل السياسي الآن في تونس، وقد انقطعتم عن هذا المشهد مكرهين طوال أكثر من 20 سنة؟ العمل السياسي، والديمقراطية يتطلبان الحوار في الآراء، والتكاتف في الجهود والأعمال.. ومن هذا المنطلق لا نستطيع أن نتوخى القطيعة مع ماضينا بسلبياته وإيجابياته، لهذا أرى فائدة مرموقة في مزج تجارب الماضي وتطلعات المستقبل بعبارة أخرى نستطيع أن نحاور بعض وجوه وأقطاب السياسة في هذا البلد، خاصة المشهود لهم، بالكفاءة والوطنية والنظافة، وربط الجسور مع الطاقات الشابة.. والواعدة التي تمثّل العمود الفقري لبلدان المغرب العربي.. باعتبار أن معدل 70٪ من شعب المغرب العربي، لا يتجاوز معدل عمره الثلاثين سنة. ٭ كيف ترى عملية تعيين اللجان الثلاث، وخاصة لجنة الاصلاح السياسي التي توكل إليها أخطر وأوكد مهمة وأقصد صياغة الدستور؟ بكل أمانة ليس لي علم تماما لا بالظروف ولا بالمقاييس لتعيين الكفاءات فيها، كل ما أعرفه أن الأستاذ بن عاشور هو رجل قدير ومتميز، لكن التدريس والنظريات في القانون شيء، والتطبيق والتصرف خاصة في الحقل السياسي، شيء آخر.. في كلمة أتمنى أن مثل هذه اللجان تكون مخضرمة ومختلطة ومتنوعة، بكل المقاييس لتمثل إرادة الشعب.. الذي يعلّق آمالا كبيرة على نتائج هذه اللجان. ٭ كيف عشت ثورة 14 جانفي وأنت الذي ناديت بجزء من برنامجها وأنت رهن النفي في جينيف؟ كان حلمي.. كان حلما.. ففي العادة نحلم بشيء نودّ تحقيقه ولا نستطيع تحقيقه.. عندما بلغني يوم الجمعة 14 جانفي، فرار الرئيس السابق (وهنا عبّر الأستاذ بن حديد، أنه يرفض نعت بن علي بالرئيس المخلوع لأن الذي فرّ ليس مخلوعا..) وسألني محدثي السيد مقداد الماجري من تونس، وكنت في جينيف: إلى أين تراه يتجه؟ ويقصد «بن علي» فأجبته فورا ودون تردّد: إمّا مالطا أو ليبيا.. ليرسي أخيرا في فرنسا.. وكان ردّي هذا مبنيا على تحليلات خاصة يطول شرحها.. بعد ذلك، أغلقت «جوّالي» ورفضت أن أسارع إلى التهليل بالخبر خوفا من أن ينقلب هذا الخبر إلى كابوس.. أي أن لا يكون حقيقة.. وذهبت أحتفل بالخبر على طريقتي.. في حدود منتصف الليل واصلت متابعة الأخبار، إلى الفجر، حين تأكدنا أنه فرّ فعلا وأنه في السعودية. ٭ وجودك في الخارج هل جعل عندك مسحة من الحقد الشخصي أو الكره الشخصي، على اعتبار أن بن علي هو وراء مأساتك؟ أبعدت من تونس قسرا سنة 1992، بطريقة تعسفية دون معرفة السبب.. فقد كنت استقلت من جامعة الدول العربية عند رجوعها إلى القاهرة، وكونت شركة ذات أسهم متعددة برأس مال (100 ألف دولار من التعويض من الجامعة ومن مالي الخاص).. فتحت مقر الشركة، ومكتبي بمنطقة «البلفدير» بالعاصمة، هذه الشركة مختصة في الاستشارات القانونية والاقتصادية من جهة، والتوريد والاستيراد من جهة أخرى.. في هذا السياق تعاقدت مع شركة كبرى ألمانية ذات الاختصاص في تصنيع الملابس الفاخرة، وتصديرها طبعا.. فهي شركة لها سوقها الخاص.. مضبوط ومعروف. وبدأنا في الاعداد لانطلاق الانتاج.. فلم تمض ستة أشهر على انطلاقها حتى فوجئت يوما بطلب مغادرة البلاد، بصفة «مؤقتة» (يصرّ على مؤقتة) وكانت هناك شخصيات عامة وديبلوماسية التحقت بي في المطار لتؤكد على أن خروجي من تونس مؤقتا، لمدة أقصاها ثمانية أيام، امتدت بعدها إلى ستة سنوات.. ٭ كيف خرجت ولماذا كان الأمر بتلك الطريقة؟ لا أعرف السبب.. إلى اليوم.. وقد طالبت بأن أحاكم وأبديت ثقتي في العدالة التونسية بمجرد معرفة أي تهمة توجه إليّ.. وتحت ضغوط المنظمات الدولية والأوساط الثقافية والأوروبية، تحالف المحامون السويسريون والفرنسيون، لمعرفة سبب اقصائي من تونس.. دون جدوى.. وكان الحبيب بن يحيى وزيرا للخارجية آخر تسعينات القرن الماضي عندما أجاب عن طلبات المحامين، بطريقة مبهمة أني تعمدت خرق القوانين في تونس.. قوانين البلاد.. أعطيت ضمانات كتابية، من الحكومة عن طريق سفارة تونس في «بارن» فتمكنت من دخول تونس في 5 جويلية 1994، لكنني فوجئت في المطار، أنه لم يُسمح لي بالدخول وعبور منطقة الشرطة بالمطار، وقد علمت في ما بعد، أنه كانت هناك نيّة أو خطة إما لاختطافي أو لقتلي، لولا تهاطل الفاكسات والمكالمات من المنظمات الدولية الحقوقية والإنسانية، والتي تعلن عن عدم وصولي إلى تونس.. وكانت تسأل عن مصيري.. فما كان من البوليس إلا أن أعادني أدراجي إلى سويسرا، بعد أربع وعشرين ساعة قضيتها في المطار، ودائما دون سبب مع العلم أني لما غادرت تونس، في 1992 كان الطابع على جواز سفري مرسوم عليه «خروج» عادي، في حين كنت مرحّلا Expulsé وقد طالبتهم بأن يؤشروا على جواز سفري بهذه العبارة «Expulsé» لكن بلا جدوى.. هذه العملية سوف تكلّف بن علي غاليا.. فسنة بعد هذا التاريخ، جاء بن علي إلى «جينيف» وتحديدا إلى المكتب الدولي للشغل (BIT) بدعوة منه له، عندما عُلم بزيارته، تحرّكت كل المنظمات في سويسرا، وأعلمت سفير تونس ب«بارن» Berne السفير اسماعيل الآجري، قالت له المنظمات، والأصوات المتعددة، إذا لم تحل قضيّة الاستاذ المحامي علي بن حديد فإن هذه المنظمات ستتحرّك في شكل حملة ضد بن علي... وكالعادة، وبفعل الغطرسة المعروف بها نظام (بن علي) فقد ضربوا عرض الحائط بتلك الطلبات... فما راع بن علي الذي جاء الى سويسرا ليبقى ثلاثة أيام، إلا أن واجهته زوبعة، فاختصر زيارته من ثلاثة أيام الى ثلاث ساعات... كان ذلك في جوان 1995... فقد حدثت زوبعة ضد دكتاتورية بن علي وعدم احترامه حقوق الانسان عبّرت عنها الجرائد الصادرة يومها... والمظاهرات ضد زيارته... وقد بعثت له الحكومة السويسرية، رسالة بشأن وضعي، عن طريق السيد فيليب جوا Philippes Joy ففوجئ بن علي بالأمر وتجاهله... بعد هذه الزوبعة... جاء ردّ بن يحيى الذي ذكرته آنفا... وهنا أذكر أنني كنت بعد سنة من هذه الحادثة أحد الناشطين الذين تحركوا باتجاه دعم اصدار كتاب «Notre Ami Ben ali» وكانت الفكرة من عندي... طبعا، غضب بن علي على السفير اسماعيل الآجري وغيّره، وكان رجلا فاضلا وكلّفه موقفه غضب بن علي... وقد تعرّض الى مضايقات كثيرة... لكنه كان رجلا حرّا... حتى سنة 2000 عندما عيّن بن علي سيدة الشتيوي على رأس سفارة «بارن»... قبل سنة 2000، أي سنة 1999، جاءت حملة الانتخابات الرئاسية بالجزائر حيث كنت، بقرار مني، أن أكون رئيس حملة بوتفليقة في جنيف، ونجحت المهمة.. وطبعا، تعرفين أنني تونسي جزائري في الآن نفسه. أؤكّد أنه طوال نشاطي وعملي سواء في مجال المحاماة أو الديبلوماسية (الجامعة العربية) أو في مجال الصحافة (في سويسرا كان مراسلا للمغربي العربي، لفائدة جريدة سويسرية 24 ساعة vingt quatre heure). ميدان الصحافة مكّنني من لقاءات وحوارات كبرى مع شخصيات لا تنسى منها: أنديرا غاندي، الخميني (ايران) سوهارتو (أندونيسيا) بورقيبة والقذافي الى آخره والقائمة تطول... وكان هذا الأمر بمثابة العيب، في نظر بعض السلطات الامنية في تونس... كما هو شأن أي إنسان حرّ ومستقل مهما كانت مهنته أو اختصاصه... إذن سنة 2000 تعيّن السيدة سيدة الشتيوي على رأس سفارة بارن... وبما أن قضيتي كانت منشورة في كل سويسرا، سواء في الصحافة أو في منظمات حقوق الانسان... فقد عملت السفيرة جاهدة بأن تؤمّن لي تطمينات حتى أتمكّن من العودة الى تونس... وكانت للأمانة، امرأة فاضلة ومتفهّمة، وعندما تحصلت على الضمانات الكافية اخترت ان تكون عودتي متزامنة مع أول زيارة رسمية للرئيس بوتفليقة الى تونس حيث عدت قبل زيارته بثلاثة أيام.. فعلا، استقبلني بوتفليقة على الملإ بحضور السيد محمد المصمودي وزير الخارجية الأسبق عندها أعلمت والدتي بعودتي الى تونس. ٭ كيف حاول بن علي أن يستقبلك... ويعيد لك الاعتبار؟ وعد بن علي بأن يستقبلني عديد المرات، لإعادة الاعتبار او شيئا من هذا القبيل، ولكن على ما يبدو هناك من الحاشية من عطّل هذه المقابلة التي بلغني ان بن علي طلبها أكثر من مرة.. في مجال نشاطي الصحفي تعرضت أربع مرات للقتل بين تونس وبلدين مغاربيين. ٭ كيف ترى تونس الآن بعد 14 جانفي، وفي فترة المخاض هذه؟ تونس الآن في مخاض، والمخاض عسير... المخاض الأول: يمكن ان نقول عنه: تمخّض الجبل فولد فأرا، وأقصد الحكومة التي تشكّلت في الاول (حكومة الغنوشي الأولى) اعتقد انه لو يقع مجلس استشاري دون نفوذ تؤخذ آراؤهم امثال احمد بن صالح والباجي قائد السبسي والشاذلي القليبي والهادي البكوش ومصطفى الفيلالي وأحمد المستيري وغيرهم كثّر، شريطة ان يبتعدوا في ما بينهم عن الضغائن القديمة وتصفية الحسابات وأن يضعوا نصب أعينهم مصلحة البلاد، مع وجوه سياسية شابة من كل التيّارات... اليسارية والقومية والاسلامية... اقترح هنا أن تقع غرفتان ويلتقي أعضاؤهما في ما بعد. فمثلا تلتقي التيارات السياسية والأحزاب ويوجد مناضلوهم ارضية مشتركة عبر الحوار والجدل، ومن جهة أخرى يكون المجلس الاستشاري الذي يضم شخصيات اعتبارية لها تجارب مختلفة ويحققون ايضا ارضية مشتركة وغير منحازة ولا حاقدة، ثم يقع اللقاء المشترك، وتكون لجنة بن عاشور ضمن هذه الكوكبة وعندها يمكن ان يكون شكل النظام في المستقبل شأنا متفقا عليه ويكون قد خضع للنقاش. اذ لا ديمقراطية ولا مستقبل لتونس، دون حرية واستقلالية القضاء والإعلام... وهنا لابدّ من التأكيد على الإعلام الذي أقصده هو الاعلام المسؤول والملتزم بأخلاقيات المهنة الصحفية.