تتسارع بك الخطوات الى شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة باحثا عن رحلة شيقة تأخذك الى أحد الشوارع الباريسية الضخمة... ودون أن تتكبد عناء السفر تجد نفسك تتجول بين شجيرات تداعب أغصانها بعض النسمات فتطاير أوراقها مدوّنة على صفحاتها تاريخ ذاك الشارع العريق... وفجأة تستفيق من حلم جميل كنت قد عشته في زمن ليس بالبعيد لتجد نفسك في واقع أليم تتعثر بين أكداس من على السجائر والاقلام والحلوى والاجهزة المنزلية والملاعب المستعملة والجديدة... فتخال نفسك لوهلة أنك تتجوّل في «سيدي بومنديل» أو باب الفلّة... مشهد يعيشه شارع الحبيب بورڤيبة هذه الايام ومنذ اندلاع ثورة الحرية التي استغلها البعض لخرق القانون باسم الحرية... «الشروق» نزلت الى شارع الحبيب بورڤيبة ورصدت الاجواء هناك... لا يمكن لعاقل أن يمر من ذاك المكان دون أن يتساءل عن نسبة وعي أولئك الباعة الذين اتخذوا من شارع الحبيب بورڤيبة مساحات بضاعتهم... ولا يمكن لمواطن يشعر بانتسابه لهذا الوطن ويسعى لاظهاره في أبهى حلة أن يقف على هؤلاء الباعة ويتبضّع منهم ماداموا اتخذوا من واجهة البلاد وقلبها النابض مكانا لانتصابهم العشوائي والغير مسؤول. شارع بومنديل...! علب سجائر من جميع الماركات بأسعار منخفضة أقلام وأدوات مدرسية اتخذت من العلب الكرتونية رفوفا لها... صانع الحلوى أحضر كل لوازمه واتخذ من أحد الاشجار مظلة له... باعة الصحون والكؤوس و«جهاز» العروس والملابس الجاهزة والمستعملة لم يناسبهم الاختلاط مع زملائهم بل أرادوا أن يشعروا وكأنهم في محلاتهم فسيّجوا بعض الاماكن التي اختاروها لعرض بضاعتهم واتخذوا من الاشجار أعمدة ومن الحبال جدران... مشهد تتعثر فيه الخطوات وتصمّ له الاذواق وتدمع له العيون وتحزن لأمره القلوب وتهتز له النفوس حين ترى أحشاد من الناس تقف على هؤلاء الباعة وتشارك في تلك الفوضى دون الشعور ببعض المسؤولية تجاه ذاك الشارع الذي كان قبلة لكل تونسي ولكل سائح أجنبي. حرية لم يكن من السهل علينا الحديث مع هؤلاء الباعة الذين رأوا أن انتصابهم في ذاك المكان حق مشروع مادام لا يتعارض مع أحد حسب رأيهم... حاولنا التحدث اليهم دون أن يتفطنوا الى هويتنا قال أحدهم وهو شاب من ولاية الڤصرين: «أبي أعطاني 200 دينار وقال لي اذهب في حال سبيلك» فاشتريت بعض الاقلام والادوات المدرسية وعرضتها في هذا الشارع لان البعض قال لي إنه المكان المناسب لاستقطاب المارة... وضعية لن تدوم بعض الامتار تفصله عن زميله وهو شاب آخر من ولاية الڤصرين اختار أن يبيع بضع علب السجائر المستوردة قال ان هذه الوضعية لن تدوم إلا 6 أشهر ومادامت الفرصة متاحة لنا اليوم لماذا لا نستغلها؟... هكذا تحدث بائع السجائر الذي كان من قبل يعرض بضاعته ب«سيدي بومنديل» لكن اليوم تحوّل الى شارع الحبيب بورقيبة لأن المكان الاول لا يوفر له الحرفاء مثل المكان الذي اختاره اليوم حسب رأيه. مصلحة المسافة لا تبتعد كثيرا بين هذا البائع أو ذاك كل البضائع التي كنا نشاهدها في الاسواق الشعبية تحولت الى شارع الحبيب بورڤيبة الذي تجرد من زينته المعهودة وتحلى بثوب البضائع المعروضة... حتى العصافير التي كانت تحتمي بالاشجار غادرت أعشاشها من فرط الضجيج لتترك مكانها لهؤلاء الذين تعدّوا على حرمة المكان في لحظة طغت فيها المصلحة الشخصية على مصلحة الوطن... تساؤلات الكل يشتري والكل يبيع... وقلب العاصمة يختنق يوما بعد يوم هل بهذه الطريقة نرد الجميل لبلد نحمل هويته ونتنفس هواءه ونمشي على ترابه؟.... هل بهذا الاسلوب نحيا الحرية ونعيش الثورة وننادي بالديمقراطية ومعنى الحرية ومعنى الثورة؟!... استفهامات وتساؤلات وصلتنا من أحد المارة استوقفه ذاك المشهد فجلس يمعن النظر في حيرة واستغراب من أشخاص لم يفهموا معنى الحرية.