«أحبك يا شعب...» كم مرة رددها الشهيد النقابي المناضل «فرحات حشاد» في حشود وجموع أحبته، أهله وناسه، عبر أرجاء وطنه الأخضر؟ هذه العبارة هي تحفة من تحف القاموس اللغوي للشعب التونسي خاصة، يتميز بها كما لا يتميز بها أحد، مغروسة بقلبه من قبل سقوط الاستعمار الفرنسي وهي التي قضت عليه وأنهت وجوده بأرض هذا الشعب الابي، قضت عليه كما قضى عليه هذا البيت الشعري الخالد بخلود الزمن، للنابغة المرحوم الذي افتقدناه في عز الشباب والعطاء «أبي القاسم الشابي» القائل: «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر» مجمل عبارات، ما بين هذا وذاك، بقيت من التحف النادرة والتي لا يوجد لها ند ولا نظير في التعبير عن محبة الشعوب بالقدر المناسب لعظمة الشعوب، ومن بقادر على أن يجعل لها أندادا؟؟ للتحف عادة قيمة فنية أو أثرية فريدة من نوعها ومحسوسة كمادة ينظر اليها وتترجم الى شعور باطني يختلف من واحد الى آخر، وقد تحفظ في المتاحف... أما هذه العبارات التي يدرك كنهها العالم العربي والاسلامي بأسره، فمنطلقها ليس ماديا على الاطلاق، بل هو احساس متفرد من العواطف الجياشة، لكنها ذكية وموزونة الارادة، تفقه كيف ترسم مسار خطاها وتتلمس حال شعبها اذا ما فاجأته فترة ضنكة ونكدة في حياته... متحفها الذي تحفظ فيه عبر السنين هو القلب، قلب الشعب بما ضم من افراد قل عددهم أو كثر... وتبقى العبارات نابضة، وثابة على الدوام كلما شعر أصحابها بالضيم والقهر... والحال كما تم وصفه، قلت كلمتك يا شعب في ثورة شتاء 2011 الأخيرة، وصدحت عاليا في وجه أعتى الانظمة قمعا وبطشا فأطحت برأس فسادها المتوحش وأخرجته عاريا في ليلة قرة لا يحتمل بردها، معلقا لساعات في السماء، يبحث عن مكان يحط فيه، بعد ضربة له كانت قاضية على آماله وأحلامه ومن معه... قلتها وبصريح العبارة: «ارحل!» ورددتها بلغة أجنبية «!Dégage» في ترنيمة ولا كل الترنيمات، أمام وكر حراسه الغاشمين.. يا لك من شجاع أنت يا شعب!! ما راودك التردد بل هاجمت الكثير ممن عاشروه ورتعوا في فلكه، مزمجرا: «ارحلوا الى غير رجعة!!» وكتب ذلك في صفحة مميزة، بلون مميز في سجل تاريخ الثورات الانسانية... لكن، مهلا يا شعب!... لا تخلط! فالخلط يذهب بالاخضر واليابس، وقوادك الذين أسسوا لفلسفة الثورة في بلادك قبل بداية الانعتاق من الاستعمار ما كانوا ليخلطوا في نواميس التمشي المنهجي لبلوغ التحرر الكامل مما كانوا فيه من الانحطاط والمهانة، كانت لهم استراتجياتهم وطرقهم لبلوغ أهدافهم بشكل مشرف كان ذلك في تلك الحقبة من التاريخ، حين كنت تحبو وتأخذ دروسك الاولى في النضال، أما الآن وأنت الذي يقال عنك انك ناضج وبلغت من المراتب ما بلغت، فلا يسمح لك بالخطإ الواضح والمشين... أنت طالب حرية وديمقراطية والخبز والماء يأتي في آخر المراتب بالنسبة اليه... ألا تتذكر أحد شعاراتك المدوية في سماء الخضراء: «خبز وماء والطاغية لا...» لا فائدة في ذكر الاسم لأن حروف تاريخ الثورة ستتكفل بذلك، رحل الطاغية ورحل من هم دونه طغيانا ورحل من هم دون دونه طغيانا تحت نداءاتك المتكررة والساخطة، ويبدو أنك تواصل الطرد في هستيريا مخبولة لكل من اعترضك «ارحل!» لتصل في النهاية يا شعب الى ترحيل نفسك بنفسك تحت ضغوط الأخطاء وتبقى ساحتك، ساحة النضالات فارغة، حينها تفهم عظم الكارثة... صحيح، أن الفساد والظلم الذي داهمك كانت موجته عالية الضغط وجرفت الكثير معها، لعبت به كما شاءت ولكن سوادك الاعظم بقي يتفرج على شطحاتها صعودا ونزولا ولم يجن منها الا الرذاذ وبرد الليالي... الآن، وقد تخلصت من موجة الفساد الأسود ورحّلتها الى ما لارجعة، وجب عليك يا شعب أن تضع سوادك الاعظم بما فيه، حتى القلة القليلة التي شوهتها الموجة الفاسدة ببعض الرذاذ المتناثر منها، تضع الكل للتجفيف والتنظيف تحت أشعة شمسك الساطعة في سماء حاضرك ومستقبلك الواعد، واعلم يا شعب ان باب التوبة مفتوح دوما عند الله على أساس أن خير الخطائين التوابون ومثلك يا شعب خليفة الله فوق الارض... أما ضمان مستقبلك فهو مرهون بصبرك واكتفائك بالخبز والماء كما ناديت أثناء ثورتك الكاسحة، مع سلوك حضاري سام، يراعي الأولويات ويبتعد عن الفوضى المقيتة والتكالب الهدام، بهذا المنحى فقط، يمكنك تجاوز المرحلة الانتقالية بسلام وتختار لنفسك من يمثلك في تحقيق أحلامك من ديمقراطية وحرية وكرامة في العيش والذات...