بقلم الأستاذ الجامعي: توفيق العلوي اختارت الخرطوشة أن تنغرز في «الحلفاء» وخيرت أن تقتحم «الهندي» اختارت ما اختارته لأنها تنزلق في مواطن الحرير وتنفلت في مرامي القطن وتنساب على الوجوه الزيتية، لا تعيش الخرطوشة إلا في المكامن الحرشاء والبقاع الخشنة، فضلت الخرطوشة الهندي لألوانه الزاهية الباعثة على الأمل والحياة لتقتل فيه هذا الأمل وتنتزع منه هذه الحياة. صوبت الخرطوشة نحو الهندي لظنها أنه إرهابي اسمه figue de barbarie فاعتبرته من«البربار» les barbares التي تعني في بعض معانيها«الهمجي والمتوحش» فآكل الهندي وذائقة وبائعه وشاريه وزارعه وجانيه إرهابي جزاؤه الخرطوشة، وجب على الهندي أن يغير اسمه، فلتختر له الخرطوشة ما شاءت من الأسماء. صوبت الخرطوشة نحو قلب «الحلفاء» لأنها ظنتها من «حلفاء الحرب العالمية الثانية» خطأ في القراءة لاغير، لكن القتل عند الطغاة على المتشابهات جائز والفتك على المتماثلات شرعي لاغبار عليه حفاظا على الحلفاء وأتباعهم كان على الحلفاء أن تغير اسمها اجتنابا لكل التباس ومجانبة لكل شبهة وحفاظا على حياتها. أتت الخرطوشة على الهندي والحلفاء لأنها تأتي دوما على الأخضر واليابس، لكن من الأخضر ما تيبّس جلمود صخر غير قابل للدوس والرفس، ومن اليابس ما اخضر علامة على حياة آملة آتية لامحالة. استجابت الخرطوشة لنداء باعة الهندي المتجولين:«هندي تالة يا وكالة» جاءت الخرطوشة ملبية نداء الضيافة فأكلت ما طاب لها ، من أبناء تالة والقصرين وسيدي بوزيد وغيرها من مناطق الحرمان، تقيهم بنارها من شدة البرد وتدفئهم زمن القرّ، وتسقي شعابها دماء ما بعدها دماء. صيحة باعة الهندي المتجولين:« هندي تالة يا وكالة» شبيهة بصيحة الشهيد محمد البوعزيزي البائع المتجول،كلتاهما صيحة الجوع وآهات الحرية والكرامة ونشيد الحياة كلها صيحات أراد صوت الخراطيش إخمادها، إطفاء النار بالنار على أن النار تأكل نفسها نهاية. «يزي ملكرطوش الحي» إحدى عبارات خطاب الأنفاس الأخيرة للرئيس المخلوع، الخرطوش الحي السالب للحياة من الحي ما يقتل الحيّ، ويزهق روح الحي بالحي، عبارة ذات نبرة احتجاجية عن وضع صنعه بن علي نفسه ويحتج عليه في ذات الوقت، بن علي يصدر أوامر القتل، قناصوه عالقون في السطوح يصطادون صدور الشباب ويقتحمون أفئدتهم عنوة«الكرطوش الحيّ» أحيا الشبيبة أيما حياة، ناسب الاسم المسمى لكنهم لا يعلمون. أرى الهندي سالا شوكه من غمده، وأرى الزيتون سائلا زيته في أفواه المحرومين والجياع، وأرى أحرار المناطق الجائعة يسدون رمقهم بطعم الحرية والكرامة ويروون عطشهم من بئر ديمقراطية كانوا يظنونها عميقة لا يمكن الإبحار فيها نشدانا للرأي الحرّ والأيادي النظيفة إني أرى الخرطوشة منكمشة على نفسها. على حياء من صنيعها تزور الضحايا في رمسهم وتحفر لنفسها مقبرة لن تخرج منها إلا لصدّ عدو أجنبي. لقد كتب البوعزيزي وبقية الشهداء رحمهم الله قصيدة وطنية«قصيدة النار» النار التي حرقها البوعزيزي ، انتهى لهيبها وبقي هو رمزا عالميا ، أشع لهيبه على كل شبر في هذا الكون ، شمس الفقراء، وقمر المظلومين ونجمة الرأي الحرّ، وهلال وطني تعتز به تونس أيما اعتزاز. نار البوعزيزي هي نفسها نار الخراطيش التي داهمت صدور أبنائنا وهي نفس النار التي في قلوب الأحرار ، نار الثورة التي كونت كرة نارية كبرت شيئا شيئا لتناسب عظمة هؤلاء الأحرار وتكون في مستوى طموحاتهم. أرى عربة الشهيد محمد البوعزيزي تجوب تراب البلدان العربية وأرى لهيب جسده يأتي على الطغاة المستبدين لقد كتب الشهيد اسمه بحروف من نار لن تنطفئ لأن لهيبها هذه الحروف نفسها، عجلات عربة البوعزيزي عجلت برحيل الطغاة، ومقبضها قبض على المتجبرين ومحمل بقولها سفينة أمان ، شراعها شراع الحرية الذي لن تطيحه لا الريح الغربية ولا الشرقية.