بقلم: صالح الحرشاني (أستاذ أول فوق الرتبة) هي نسمة الحرية التي هبّت علينا وملأت حياتنا والفرحة التي غمرتنا في الغدوّ والرّواح، وهي أيضا مسحة الكرامة التي عطّرت أنفاسنا منذ 14 جانفي 2011 وكأننا وُلدنا من جديد في غير ميعاد. أجل! هما الحرية والكرامة اللتان افتككناهما افتكاكا في ذلك اليوم الأغرّ. فحفّزاني لأدعو كل تونسي أصيل أن يرفع رأسه عاليا ويسير مختالا ويسجل أنه مواطن حرّ كريم، وأخصّ في هذا السياق الأستاذ الدكتور محمد الطالبي المؤرخ وصاحب كتابة (الدولة الأغلبية) الذي بقي ينتظر هذا اليوم وقد تملكه اليأس وهو القائل في مقال خطير خصّ به مجلة «Am» العدد 172 بتاريخ جانفي 2000: «لست تونسيا مهمّشا اطلاقا، كما أني لست بعد مواطنا وربما أموت دون أن أحصل على صفة المواطن التونسي: Je ne suis plus un indigène, je ne suis pas toujours un citoyen نعم! بقي أستاذنا الكبير ينتظر سنّ الثمانين حتى يعيش فرحة الحرية والكرامة وليسمح لي إذن أن أدعوه هو الآخر أن يرفع هامته عاليا ويسجل أنه مواطن تونسي حرّ كريم. وها أنك يا أيها المفكر لم تمت قبل أن تنعم بما كنت تتمنى أن تنعم به وذهب عنك اليأس، فهنيئا لك وهنيئا لكل تونسي بهذا الكسب العظيم. ولقد صدقت أيها الأستاذ في مقالك لمجلة «Am» عندما أدركت أن «المواطنة، مثلها مثل الاستقلال» تُكتسب اكتسابا، ولا تتأتى دون كفاح». La citoyenneté, comme l›indépendance, ça se gagne, et cela ne va pas sans combat فكان لا بدّ من التضحية، ولا بدّ من الانتحار من أجل الحياة، ولا بد من «البوعزيزي»، الذي أشعل نار الثورة يوم 17 ديسمبر 2010 حتى تتوالى الاحتجاجات ويهبّ الناس هبّة رجل واحد طالبين الرئيس المخلوع بالرحيل، ومنادين بالحرية والكرامة. لقد كانت ثورة عارمة أتت على الأخضر واليابس ودكّت عصابة الخداع والنفاق واللصوص فتعجّلوا الهروب وبقيت تونس بعدهم حرّة كريمة تلملم جراحها وتسكن آلامها. وبقدر ما جثم علينا أولئك الخونة وابتزّوا أموالنا وأرزاقنا وطال علينا جبروتهم، سرعان ما انفكت عنا حبالهم فانفرط ما كان ملتئما وانقطع ما كان منتظما واختزلت السنون الطوال من الكبت ومصادرة الرأي والخوف في أيام معدودات من الكفاح والتضحيات والانعتاق والحرية والكرامة وتلك هي سخرية القدر ومشيئة الله وإرادة الانسان! والآن كيف نحافظ على هذه المواطنة؟ وكيف نحمي حريّتنا؟ وكيف نستثمر كرامتنا ونعتزّ باستقلالنا؟ إنّ مسؤوليتنا كبيرة! وكبيرة جدّا! لقد ضحينا بأرواح شهدائنا من أجل هذا الكسب العظيم، فلا نترك لأعدائنا وأعداء ثورتنا يعبثون بثروة جهادنا! ومثلما برهنا على تضامننا في ساعات الصعوبة من خلال حراسة ممتلكاتنا وديارنا وأحيائنا من عبث «القنّاصة» يجب أن نبرهن أيضا على التفافنا جميعا حول مكاسب وطننا فلا نسعى الى التدمير كما أراد «الديكتاتور المخدوع» تدميرنا، ولا نترك المنتهزين للفرص يركبون على الأحداث ويفتكون منّا ثورتنا. هذه هي إذن مسؤوليتنا جميعا، ومسؤولية شبابنا بصفة خاصة. فلا مجال عندنا الآن للمواجهة والجري وراء تضارب الأفكار والقيم. فالوطن تحمّلنا ونحن مشتتون مقهورون فلا نتركه أيضا يتجشمنا ونحن مختلفون متخمّرون بين العلمانية والتديّن مثلا، فاللغة تجمعنا والاسلام يلفّنا والحوار يحدونا والتسامح يلمّ شملنا. والأهّم من كل ذلك أن نشقّ طريقا سوية لنهضة ثقافية واقتصادية وسياسية تخرجنا من دائرة التخلف وتبعدنا عن التقوقع والتطرف. لقد كانت ثورتنا مفاجأة للعالم أجمع فلا الشرق خطر بباله أن تنهض انتفاضة من تونس ولا العرب توقع أن يقدر شباب «إفريقية» أو «ترشيش» حسب التسمية الحفصية لتونس قديما افتكاك الحرية والكرامة، نعم! أولئك الشباب من أصحاب الشهائد العليا والعاطلين عن العمل مكرهين لا أبطالا لأن من ائتمنوه على مصيرهم وكلّفوه بقيادة سفينتهم فضل نزواته وسرقة مجهوداتهم وأموالهم وثرواتهم بالتعاون مع حرمته وأصهاره، هؤلاء الشباب، هم اليوم مطالبون أكثر من أيّ وقت مضى بالحفاظ على مكاسب هذه الثورة التي عدت مضرب الأمثال عبر التاريخ القديم والحديث. وهذه الثورة، ولئن كانت شبابية بالدرجة الأولى، فهي ملك لكلّ التونسيين بجميع أصنافهم ودرجاتهم. فهي ثورة تونس المعاصرة من أجل الديمقراطية والحرية والكرامة. والواجب الوطني يلّح علينا اليوم أن نشمّر عن سواعد الجدّ والعمل فالفرحة بالمكسب لا تكتمل إلاّ بالتخطيط وضبط المصير واختيار الرجال الذين سنوكل لهم قيادة السفينة من جديد، وليكن الاختيار نابعا من دراسة عميقة وفكر حصيف وتدبير سديد. والمسؤولية ليست هيّنة، بل هي خطيرة وخطيرة جدا، والتونسي مثلما عرفناه محبا لوطنه يموت من أجل أن يحيا، يجب أن نراه فاعلا في هذه الأيام الشديدة من أجل بناء الديمقراطية التي تعطش إليها سنينا طويلة وقادرا على الحفاظ على حريته وصون كرامته. وهذه الكلمات الرنانّة يجب أن تدخل قواميسنا لنعطيها المعاني الظاهرة والباطنة، معنى معنى ومفهوما مفهوما حتى نكون عن جدّ جديرين بالاحترام والتقدير من قبل المجموعة الدولية التي فاجأناها بجدّيتنا وقدرتنا على معرفة من أين تؤكل الكتف.