وافانا العقيد (المتقاعد) البشير بن عيسى بالتعقيب التالي: أرجو من مروءتكم نشر هذه التوضيحات المتعلقة بالتصريحات التي أدلى بها السيد خالد الدريدي المدير السابق بوزارة الخارجية في العدد 7197 من جريدتكم بتاريخ 28 فيفري 2011 حول «عسكرة» هذه الوزارة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي: ترتكز الديبلوماسية التونسية على شبكة من السفراء والقناصل العامين والقناصل يقدر عددهم بزهاء الثمانين مركزا موزعين على اربع قارات. عمد الرئيس المخلوع في اطار خطة لافراغ الجيش من اطاراته السامية الى تعيين ثلاثة ضباط سامين برتبة جينرال وضابطين برتبة عقيد في خطة سفير فيما أوكل الى ثلاثة ضباط آخرين مهمات قنصلية في بعض المدن الأوروبية ومن بينهم لواء مدير الأمن العسكري. ويتضح من هذا أن الوظائف الديبلوماسية المسندة للضباط لا تتجاوز ثمانية بالمائة من مجموع المناصب المنتشرة في ارجاء العالم وبالتالي فإن الحديث عن «عسكرة» الوزارة لا يعد الا وأن يكون ضربا من المبالغة والافتراء لكن ليس هذا المهم في الموضوع بقدر ما يجهله السيد خالد الدريدي اذ أن ثلاثة من الضباط الذين يحملون رتبة جنيرال يمارسون وظائف سامية في سلم القيادة العليا للجيش على النحو التالي: فريق أول رئيس أركان الجيوش الثلاثة فريق رئيس أركان جيش البر لواء رئيس أركان جيش الطيران والذي غاب عن تفكير السيد الدريدي ان الوظائف العسكرية في الجيش التونسي منذ نشأته سنة 1956 لا تمنح على أساس المحاباة أو الانتقاءات التفاضلية بل هي نابعة من الكفاءات والخصال الفردية لكل ضابط وبالخصوص من نتائج الدراسات والتربصات التي يجريها بأكبر المؤسسات وأشهرها في الخارج وخاصة بالعالم الغربي على أساس التكوين المستمر بمدارس التكوين الأساسي ومدارس الأركان ومدارس الحرب العليا بالنسبة الى جيش البر ومثيلاتها بالنسبة لجيش الطيران والبحرية. وفي كل هذه المراحل والحلقات المتلاحقة يستوعب الضابط دروسا ومحضارات عن طبيعة العلاقات الدولية وصراع المصالح بين الدول ويمتحن في المواد العلمية والتاريخية المدرجة في برامج تلك المدارس العليا مما يؤهله لتحمل مسؤوليات مهمة أي كان مصدرها وأي كانت أبعادها، ولا يجب أن يبقى في نظرية السيد الدريدي ومخيلته أي شكل في قدرة الضباط السامين على تحمل وظائف ديبلوماسية خاصة وأن جل السفراء العاملين بوزارة الخارجية لا تتوفر لديهم كفاءات تفوق كفاءة نظرائهم العسكريين بل العكس هو الصحيح، وفي هذه النقطة بالذات فإنني أدعو السيد الدريدي وبجانبه السيد أحمد أونيس الذي قيل عنه إنه أول من قال «لا» لعسكرة» الخارجية أدعوهما للرجوع لخزينة الوثائق والمحفوظات بوزارة الخارجية أو لوزرائهم المتعاقبين على الوزارة لسبر آرائهم بشأن مردود عقيد من الجيش على سبيل المثال بالنسبة الى الفترة التي قضاها في أديس أيابا بصفته مندوبا دائما لتونس لدى منظمة الوحدة الافريقية على امتداد خمس سنوات علما وأن هذا العقيد الذي يتمتع بمستوى ثقافي لائق (BAC+8) متحصل بالخصوص على شهادة من المعهد الفرنسي للدراسات السياسية (Sciences po) علاوة على تخرجه من المعهد الأمريكي للدراسات الدفاعية العليا الذي يؤمه كبار السفراء والضباط السامين الأمريكيين ويتضح من هذا أن الولاياتالمتحدة وهي أولى الديمقراطيات في العالم تضمن لسفرائها وضباطها السامين تكوينا متجانسا ليقينها أن ميداني الدبلوماسية والعسكرية متكاملان شكلا ومضمونا، كما أن هذا العقيد هو الذي ترأس بعثة منظمة الوحدة الافريقية الى جزر القمر في أعقاب مغامرة عميل المخابرات الفرنسية «بوب دونار» الذي اعتقل رئيس جزر القمر السيد سعيد جوهر ونقله الى جزيرة» la Réunion بدعوى تمكينه من فترة للراحة والاستجمام، وهذا الاعتقال يعود في حقيقته الى مطالبة الرئيس جوهر باعادة جزيرة ميوط الى أرخبيل القمر والى ادماج جمهورية القمر في الجامعة العربية وهو ما لم ترض عنه فرنسا وساعدت «بوب دونار» على الدخول الى العاصمة موروني بواسطة باخرة مصحوبا بكوكبة من العملاء المسلحين والتسرب الى القصر الرئاسي حيث عثروا على الرئيس سعيد جوهر يؤدي صلاة الفجر فقبضوا عليه واقتادوه الى السفارة الفرنسية ومنها الى طائرة عسكرية حملته الى جزيرة «la Réunion» وقد لعب العقيد التونسي دورا كبيرا في اقناع الرئيس جوهر بقبول حل وسط يتمثل في عودته الى بلاده واستكمال فترة رئاسته (3 أشهر) ثم الانسحاب لتمكين شعبه من انتخاب خلف له بصفة ديمقراطية وتمت العملية على هذا النحو وبذلك تكون هذه العملية أول حل وسط يكلل بالنجاح في تاريخ منظمة الوحدة الافريقية. بقي لي أن أضيف ان هذا العقيد قد أحيل على التقاعد الوجوبي في أعقاب عودته من المعهد الأمريكي بدعوى تعيينه في خطة ديبلوماسية لاحقة لم ينلها الا بعد ان قضى سنة كاملة في الانتظار وذاق مرارة لا توصف. كما أريد أن أضيف ان هذا العقيد سبق له أن سمي مستشارا للسفارة التونسية بالقاهرة من صائفة 1979 الى صائفة 1982 وأدى بكفاءة واقتدار تمثيل الديبلوماسية التونسية في تلك الظروف التي شهدت قطع العلقات الديبلوماسية بين البلدين بموجب قرار من الجامعة العربية ملزم لكافة أعضائها بسحب سفاراتها من مصر التي تجرأت على امضاء معاهدة سلام مع اسرائيل متحدية الاجماع العربي ومتنكرة للقضية الفلسطينية المقدسة. وتشهد خزينة وزارة الخارجية ومحفوظاتها على دسامة الرسائل والتقارير التي تولى العقيد التونسي ايصالها لها عن طريق وزارة الدفاع الوطني الى الخارجية في تونس بدرجة أنها بقيت على بينة كاملة بتطورات الأوضاع في مصر في كامل المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية. وقد عاش العقيد ظرفا قاسيا حيث أنه كان متواجدا بالمنصة الشرفية وعلى مسافة خمسة أمتار من مكان الرئيس أنور السادات الذي تعرض الى هجوم مسلح فقد اثره الحياة وذلك أثناء العرض العسكري الذي أقيم في السادس من أكتوبر 1981 احتفالا بذكرى حرب أكتوبر 1973، ومن سلبيات ذلك المشهد الرهيب حصول بعض الجراح الطفيفة في أرجل قرينته التي كانت بجانبه في المنصة المذكورة حينما دفعها زوجها نحو المدرج المجاور حرصا على تأمين سلامتها من الطلق الناري العشوائي الذي كان مصوبا في اتجاه المنصة ولعلني في ختام هذا الرد قد تحاشيت التعرض الى غرائب المواقف والسلوكيات التي بلغت الى علمي أثناء المدة التي قضيتها بوزارة الخارجية والتي خيرت التستر عليها وعدم كشفها احتراما لأعراض الناس وخفاياهم. فما كان يليق بالسيد أحمد أونيس ولا بالسيد الدريدي أن يستنكرا تعزيز اطارات الخارجية بعدد ضئيل من الضباط جلبوا معهم تجاربهم الواسعة وكفاءاتهم بصفة أثرت على وزارة الخارجية ونهضت برسالتها الديبلوماسية ومردودها أسوة بما تقدم عليه الدول المتقدمة من «استغلال الكفاءات العسكرية في سائر الميادين وعلى سبيل الأمثلة والاستدلالات أذكر أن خمسة من رؤساء الولاياتالمتحدة هم من العسكريين وثلاثة من الرؤساء الفرنسيين هم من العسكريين (بيتان دي قول وماك ماهون) كما أن رئيس ألمانيا في عهد جمهورية قيمار هو الماريشال هندنبورق Marichal Hindenburg. وأما السفراء العسكريين فعددهم لا يحصى ولا يعد واقتصر على ذكر الأميرال استفا والجنرال ماست والجنرال جوان والجنرال بويي دي لاتور مؤخرا بتونس الأميرال لنكساد سفير فرنسا. وفي الختام لا أقول ان الرئيس المخلوع كان ينتمي الى العسكرية التونسية لأنه لم يتلق الا فترة تكوين ضئيلة من ناحية ولم يشارك كأغلبية زملائه في تربصات التكوين العالي من مدرسة أركان والمدرسة الحربية العليا وغيرها من المدارس ومن ناحية أخرى لأن مستواه الثقافي محدود جدا ومن جهة ثالثة لأنه لم يشارك في أي واقعة حربية ولم يتقمص أي وظيفة قيادية أو ينتمي الى أي فريق تنظيم أو تخطيط أو مناورات عسكرية، فكيف ارتقى الى رتبة لواء حينئذ؟ فهذا يعود الى تعاقب شخصيات مدنية ليست لها دراية بواقع العمل العسكري على وزارة الدفاع الوطني وارتياحهم الفطري لأكاذيب المخبرين وادعاءاتهم الباطلة وفي هذا السياق فإن زين العابدين بن علي قد نجح في مغالطة شعب كامل طيلة ربع قرن دون أن ينتبه أحد الى حقيقته ويكتشف غاياته. وفي الواقع فإن زين العابدين بن علي قد ارتقى الى رتبة لواء وهو في وزارة الداخلية وفي الخلاصة أقول اننا استمعنا باطناب الى المؤاخذات المتنوعة التي دأب الكثيرون على سردها على شاشات التلفزة لكننا لم نسمع ولو مرة واحدة للمظالم التي ارتكبها الرئيس المخلوع في حق ضباط الجيش الذين تألموا في صمت كعادتهم وأخذوا على أنفسهم خدمة الوطن في أي ميدان يكتب لهم قدرهم العمل في أرجائه، بحنكة واقتدار. العقيد (م) البشير بن عيسى مدير مؤسس سابقا لمعهد