٭ تونس «الشروق»: قال السيد رضا شهاب المكي، عضو حركة «قوى تونس الحرّة» إن الشعب التونسي استمدّ ثورته من تاريخه العريق الممتد على 3000 سنة والحافل بالتظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات والثورات.. وأكد المكي في حوار مع «الشروق» أن ثورة 14 جانفي، رغم أنها «مفاجأة» إلا أنها كانت منسجمة مع التغيرات الجوهرية التي يعيشها العالم المعاصر، خاصة التغيرات الاقتصادية.. كما اعتبر من جهة أخرى أنه بالرغم من أهمية الثورة الفرنسية في تاريخ الثورات العالمية، إلا أنه لا يجب اعتبارها مرجعا وحيدا لنستمدّ منه القوة في تفعيل الثورة التونسية. وفي ما يلي الجزء الأول من هذا الحوار: ٭ كيف تنظرون إلى ثورة 14 جانفي وهل تعتقدون أنها كانت (أو ستكون) قطعا تامّا مع الماضي؟ أعتقد أن يوم 14 جانفي 2011 كان يوما مفصليا في تاريخ تونس الحديثة ويكاد يكون مهما في تاريخ الشعوب العربية وشعوب العالم بأسره.. والفارق بين ما قبل 14 وما بعده فارق كبير يؤشر إلى وضع المرحلة السابقة موضع تساؤل والبحث فيها عن مؤشرات يجب الاستناد إليها لبناء المرحلة القادمة.. ولا أعتقد أن التونسي قطع مع نفسه بل بالعكس بحث بعد ثورة 14 عن جذوره الحقيقية فكان أن تصالح مع تاريخه. فالشعب التونسي عريق وله الكثير من الميزات لأنه طوال 3000 سنة، لم يتوصل أي كان أن يفرض عليه إديديولوجيا بعينها فكان يظهر دائما مهادنا ومسالما إن كان في موقع ضعف، بينما إذا كان في موقع بداية التفوق فإنه لا يترك الفرصة تمر دون أن يخرج ويتظاهر ويحتج وينتفض أو يثور وهذا ما حصل في 14 جانفي حيث استمد الشعب ثورته من هذا التاريخ العريق. ٭ أين تضعون ثورة تونس مما يحصل في العالم من تغيرات: هل هي في معزل عنها أم منسجمة معها تمام الانسجام؟ حسب رأيي فإن الشعب التونسي أشّر لثورة نوعية جديدة ولحالة فريدة، غير أنها منسجمة مع التغيرات الجوهرية الموجودة في عالمنا المعاصر خاصة في مناطق القوة مثل أوروبا وأمريكا وجنوب شرق آسيا. فعدّة مؤشرات عديدة بهذه البلدان تبيّن أن عصرا بدأ يذهب وآخر بدأ يحلّ خاصة على المستوى الاقتصادي.. حيث أصبحنا نشهد بداية نهاية الدولة الوطنية (أو الدولة الوطن) والدولة الأمة والسوق الوطنية والاقتصاد الوطني، أي تحكم الدولة في دواليب الانتاج وسيطرة القوى الداخلية على وضع داخلي.. فهذا المشهد أصبحنا اليوم نراه قديما وسابقا. أما المشهد اليوم فأصبحت فيه الدولة، خاصة الدول الغربية الكبرى، تجري وتبحث عن نفسها وتعيش انفلاتا داخليا وضعفا في مجابهة قوى اقتصادية تجاوزتها وعبرت القارات وأصبحت تبحث عن ملاجئ فيها جنان من الفردوس الجبائي ولم تقدر الدول الوطنية الأوروبية على إيقاف هذا الزحف. وهذا يدل على أننا بصدد توديع عصر من تاريخ البشرية والانتقال إلى عصر جديد وجب أن يتجدّد فيه الفاعلون.. فلا الآليات القديمة أصبحت قادرة على أن تحكم هذا العصر ولا التشكيلات القديمة (الأحزاب الكلاسيكية النقابات العمالية الكبرى) مازالت قادرة على التحكم في الشعوب. ٭ كيف تجسّم هذا المشهد في تونس من الناحية الاقتصادية والسياسية؟ خلال السنوات الأخيرة بدأ في أمريكا وفي أوروبا يتشكل المجتمع الانساني الجديد المبني على الروابط الأهلية والاعتصامات والتظاهرات الدولية المعادية للعولمة الاقتصادية، وفي كل مرة يجتمع فيها كبار رأس المال في العالم إلا وتستقبلهم هذه الحشود بأشكال نضالية غير مسبوقة لم تكن مستعملة من طرف الأحزاب والنقابات الكلاسيكية وهو ما قد يكون ساعد على استفحال الأزمة الاقتصادية في أوروبا وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية.. وإزاء هذا الوضع، تحاول الحكومات والدول باستمرار تحميل مسؤولية الخروج من هذه الوضعية لشعوبها من خلال ضخ كميات هامة من الأموال لفائدة البنوك الخارجية من دائرة الانتاج الاقتصادي والداخلة موقع المضاربة والارتزاق والسمسرة.. وعدة شعوب في أوروبا مثل ايرلندا وإيزلندا وفرنسا بدأت ترفض هذا الوضع.. ولكن آثار هذا الوضع كان مدمّرا في عدة دول عربية منها تونس وهي دول ليس لها ما يمكن من الحماية سواء عبر المجتمع المدني أو عبر التشكيلات السياسية وأصبحت هذه الدول الضعيفة غير قادرة على بناء نماذج تنموية سليمة مما أفرز آلاف المهمشين وسبّب التحلّل والتفكّك للتشكيلات السياسية. وهذا ما حصل في تونس، حيث لم يسلم من هذا التفكّك حتى الحزب الحاكم الذي أبدى عدم قدرته على الاستجابة إلى طلبات ممثليه ومنخرطيه، وحوّلهم بالتالي إلى مجموعة مفكّكة ومضطربة وقادرة على فعل أي شيء.. وقد تأكد يوم 14 جانفي وبعده وحتى قبله هذا الانتهاء الفظيع للحزب الحاكم.. وما يحدث الآن من محاولات عودة هذا الحزب إلى الوراء ما هي إلا عمليات يائسة تم خلالها تجنيد شباب يائس وذوي سوابق عدلية وأطفال صغار، وهو ما لن يغفره تاريخ تونس. ٭ إلى أي مدى يمكن أن نربط بين الثورة التونسية والثورة الفرنسية؟ الثورة الفرنسية كبيرة بكل المقاييس وأثرها كبير على كل ثورات العالم لكن أن تكون هي المرجعية الوحيدة و المهيمنة فهذا أمر وقع الاعداد له حسب اعتقادي.. فتاريخ الشعوب لا يقتصر على تجربة واحدة ولا على ثورة واحدة.. فالشرق له تجاربه والغرب له تجاربه ومختلف الحضارات بمختلف دياناتها ومعتقداتها لها تجاربها وكثير منها يجوز أن نستمد منها قوتنا في تفعيل ثورة 14 جانفي. صحيح هناك مغالاة ونوع من المبالغة، لكن في اعتقادي يجب التأسيس لليبرالية جديدة بالمقاسات الدستورية والقيمية للثورات في الغرب وخاصة لرموزها من فقهاء القانون الدستوري بسبب حاجتنا إلى أن تنتقل البلاد من واقع الاستبداد إلى واقع ليبرالي وهو أمر مطلوب وضروري. لكن ثورة تونس قامت على أساس طابعها الاجتماعي، فهي ثورة اجتماعية قبل أن تكون سياسية، لأن مطلبها الأساسي هو كيفية ادماج آلاف المهمشين العاطلين عن العمل خاصة حاملي الشهائد العليا الذين ارتفع عددهم (حوالي 180 ألف اليوم). وهذا أمر جديد في التاريخ وأمر نوعي في تحديد مطالب المهمشين الذين درسوا وأصبحوا قادرين على التفكير وفهم الواقع وصياغة الدراسات.. فجمعوا مطالبهم حول «الشغل القار واللائق» الذي يضمن الكرامة والعزة. فاقترن هذا المطلب بمطلب إنساني كوني وليس غربي فقط.. مطلب يتعلق بكرامة الإنسانية التي لا حدود لها في العالم. ولا يمكن لأية حضارة أن تنفرد لوحدها بأنها المسؤولة الأولى عن بناء القيم الإنسانية لأنها مشتركة بين كل الشعوب والحضارات لكن وسائل الإعلان عنها تختلف. واليوم مطالبون بأن تكون صدورنا أكثر رحابة حتى نتقبل آليات وأشكال جديدة لفهم نظرية التحول وبناء القيم. وأعتقد أن التونسي الذي صنع هذه الثورة دون قيادات كان على وعي تام بخصائصه كتونسي يستند إلى تاريخه الطويل وإلى تاريخ كافة الشعوب وإلى الحضارات بما لها من مكونات مادية وعقائدية ومن ضمنها الإسلام.. فلا أعتقد أن ثورة تونس أتت لتحارب الإسلام بل لتحارب التهميش والبطالة لكنها اصطدمت بنظام سياسي مستبد كان لا بدّ من إزاحته لتحقيق هذا المطلب البسيط ظاهريا لكنه في الواقع كان صعبا جدا. فالثورة مطالبة الآن بمنوال تنموي جديد وبنظام سياسي ديمقراطي يضمن المبادرة الحرة ويتجاوز بالضرورة النقاش الدستوري حول مساوئ ومحاسن النظام البرلماني أو النظام الرئاسي.