«لا يجب أن يصبح الخوف من الفراغ فزاعة تمنع تواصل نجاح الثورة» دعا المفكر التونسي والأستاذ الجامعي والباحث في تاريخ الأفكار الدكتور عفيف البوني خلال لقاء خص به الصباح حول تونس بعد انتصار الثورة إلى تكريم شهداء الحرية والكرامة مؤكدا على ضرورة تمجيد تضحياتهم في الجانب الاعتباري بنصب تذكاري مكان الساعة التي تتوسط ساحة 7 نوفمبر والتي أطلق عليها مؤخرا اسم البوعزيزي تنقش عليه أسماؤهم. كما دعا الفنانين التشكيليين لاقتراح مثال أو نموذج هندسي يليق برمزية معاني هذا النصب وان تعلق أسماؤهم وتواريخ استشهادهم على شواهد رخامية بداية من شهداء الرديف وصولا إلى الذين عذبوا وقتلوا حتى في السجون بسبب أفكارهم السياسية مهما كانت اتجاهاتهم.. وفي ما يلي نص الحديث الذي توسع ليشمل ما حدث ويحدث أيضا المنطقة العربية من ثورات وتحركات باتجاه تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية.
بأي عين تنظرون إلى هذه الثورة العربية وفي أي منزلة تنزلونها؟
العرب في الوطن العربي الآن يتحولون من مساحة يمكن تسميتها نقطة سوداء في العالم المعاصر ليلتحقوا بركب الحضارة العالمية من خلال الثورة التي بدأت تونسية وصارت أما للثورات العربية كما حدث في مصر ويحدث الآن في اليمن والبحرين وفي ليبيا والقائمة طويلة. العرب الآن يحيّنون ويطبقون أفكار ومبادئ النهضة التي وقع تعطيل تنفيدها منذ قرن ونصف بسبب الاستبداد الداخلي والاستعمار والامبريالية وإسرائيل، هذه أول ثورة عربية تحدث في العصر الحديث وتجعل العرب يعربون أو يوطّنون قيم وأفكار ومبادئ جوهر الحداثة وأعني الديمقراطية ،التعددية السياسة ، حقوق الانسان الحريات العامة التنمية الشاملة بالمفهوم العلمي، الفصل بين الدولة والأحزاب التمييز بين ممارسة السياسة وعبادة الدين أي بعبارة أخرى الثورة في تونس وفي مصر على سبيل المثال قد طرحتا المفهوم الصحيح للمواطنة بمعنى أن للإنسان حقوقا يجب أن يأخذها وواجبات يجب أن يؤديها وهذا يعني تجاوز حالة الرعية التي كان عليها العرب إلى يوم 14 جانفي 2011 في تونس وفي 25 جانفي في مصر وفي ليبيا الثورة وقعت وتستمر وتواجه تحديات من نوع غير معهود في تواريخ الشعوب باعتبار سعة مساحة البلاد وقلة عدد السكان ووجود حاكم مستبد من نوع قلّ نظيره في التاريخ حيث يستعمل الجيش في حرب إبادة جماعية ضد المدنيين العزل وحيث لا وجود لشيء اسمه الدولة أو القانون منذ 1969 كانت هناك فوضى منظمة لذلك فالثورة الليبية التي بدأت عفوية وبدأت تكبر وتنتصر يوما بعد يوم وينتظر أن ترسخ هذا الانتصار بإنهاء نظام القذافي. وأضيف أخيرا بالنسبة للحالة العربية أن تأخر العرب في القيام بالثورة ضد الأنظمة الاستبدادية كان سببه أساسا الدعم القوي من طرف القوى الكبرى والاستعمارية لتلك الأنظمة من اجل حماية إسرائيل ونهب الثروات العربية وقد ظهر ذلك جليا من خلال الاضطراب في الموافق والتفاجأ من طرف الدول الغربية بحدوث هذه الثورات وخشيتها على إسرائيل بينما كانت من قبل هي التي عبر سفراتها تقوم بالانقلابات العسكرية لإجهاض الإمكانيات الثورية.
بعد أن نجحت الثورة وأخذت الحكومة الانتقالية ما يكفي من الوقت تبين للشعب عجزها وارتباكها وعدم شرعية استمرارها مع اعتقادي بوجود عناصر جيدة ضمن الحكومة ذلك ان التونسيين اليوم من خلال المظاهرات وكل أشكال التعبير الأخرى يصرون على نجاح الثورة ومنع كل الفرص أمام الثورة المضادة عبر رحيل الحكومة الحالية وحل مجلسي النواب والمستشارين وقيام جمعية وطنية تأسيسيةلانجاز دستور جديد بمعايير ديمقراطية ودولية وذلك وحده ما يضمن التأسيس لجمهورية برضى بها التونسيون.
يخاف البعض من أن يؤدي حل الحكومة إلى فراغ خطير وفوضى؟
أي عاقل لا يقبل بالفراغ كما لا يجب ان يصبح الخوف من الفراغ فزاعة لمنع سبل إنجاح الثورة لذا اعتقد ان الحكومة عليها ان تعلن وتلتزم بالعمل على القيام هيئة تأسيسية في وقت وجيز( 10 أيام على أقصى تقدير) من اجل أن تنبثق عنها حكومة من الشخصيات والكفاءات الوطنية التي تكون فوق الشبهات.
وكيف يمكن أن نتقي الشبهات في هذا الوضع؟
اعتقد انه يمكن اختيار بعض الشخصيات المستقلة سياسيا والمعروفة بخبرتها في الشأن العام وكذلك تمثيل بعض الهيئات السياسية والاجتماعية والمهنية في البلاد للمرحلة الانتقالية فقط ( محامون..قضاة.. نقابيون.. إطارات جامعية)... وأضيف أن إمكانية كتابة نص للدستور المفترض لا يستغرق وقتا طويلا إذا ما أعدته مجموعة من الخبراء في القانون الدستوري وفي الشأن الوطني والسياسي بناء على استخلاص العبر من الخمسين سنة الماضية ويعرض نصه على الاستفتاء العام والمصريون أعلنوا أنهم يعدون دستورا في ظرف 10 أيام.
وماذا عن هذه الأحزاب الكثيرة التي ظهرت بعد الثورة هل هي ظاهرة صحية أم أنها تكريس لظاهرة الانقسامات؟
كثرة الاحزاب ظاهرة صحية وستندمج جبهويا، من الطبيعي أن يحصل ذلك وهذا دليل على حيوية ما نشأ عن نجاح الثورة قياسا بما كان عليه القمع والمنع من قبل... وكثرة الأحزاب ظاهرة صحية وهي كثيرة بصفة مؤقتة والانتخابات حين تحصل ستفرزعددا قليلا من الأحزاب وذلك من خلال اتحاد بعض الأحزاب مع بعضها واندماجها في شكل جبهوي(أي جبهات) او من خلال عدم تقبل الناخبين لبعض الأحزاب التي لا تجد لديها مشروعا يستحق ان تنخرط فيه. واعتقد أن من حق جميع التونسيين ان ينشطوا في المجال السياسي وان يتنافسوا على ما هو أفضل لبلادهم فالديمقراطية والسياسة تتسعان للجميع.
وما هي الأحزاب التي ترجح ان تبقى وتنشط مستقبلا أو تحكم؟
أتصور أن التيارات الوطنية ذات الأفكار العروبية والإسلامية والديمقراطية هي التي كان لها رصيد في الماضي وسعت إلى استثماره بعد أن اندلعت الثورة هي المؤهلة أكثر من غيرها لان تبقى وتكبر خاصة إذا التزمت بالتنافس السلمي واهتمت بالمسألة الاقتصادية والاجتماعية وخاصة إذا لم توظف الدين في السياسة فذلك خطر يهدد مستقبل الثورة وطبيعة مدنية الدولة.
هناك خوف على مجلة الأحوال الشخصية ومكتسبات المرأة من بعض المنتمين الى الاتجاه الإسلامي؟
منذ أن وجد هذا الاتجاه وهذه التسمية في تونس صار عندنا مسلمون وإسلاميون... وهذا تقسيم غريب لا يخدم الإسلام كما هو معروف ولا يخدم الديمقراطية في تونس ذلك أنني أرى ان السياسة يمارسها المواطنون وفقا لنص الدستور والقوانين والمعايير العالمية للديمقراطية ذلك أن هذا الأمر أي السياسة والديمقراطية شأن عام ودنيوي يهم المواطنين تحديدا أما الدين والإسلام والجنة والآخرة والتعبد فهو ليس شأنا للمواطنين بل هو شأن خاص بالمسلمين أو بالمؤمنين والخلط بين مفهوم المواطنين ومفهوم المسلمين اوالإسلاميين او المؤمنين لا يخدم الديمقراطية فمهما كان الاعتقاد الديني لأي فرد من التونسيين فعليه ان يمارس السياسة من خلال المواطنة اي كمواطن. واعتقد أن عدم مراعاة التمييز بين السياسة والدين ان حصل من طرف الاتجاه الذي ذكرت سيضر بالعملية الديمقراطية كما لن يفيد ذلك الاتجاه وادلل على ذلك بان الثورة لم ترفع شعارات دينية وان الخطر من توظيف الدين في السياسة لن يمس حقوق المرأة وحدها كما ذكرت في سؤالك بل من طبيعة الدولة المدنية التي نريد وينحرف بمشروع المجتمع المدني إلى غير صالح الديمقراطية والدولة المدنية مع أني ضد منطق الإقصاء والاجتثاث وان فض الخلافات السياسية والفكرية يجب ان ينحصر في الوسائل الفكرية والسياسية والسلمية.
وماتفسيركم كباحث في تاريخ الأفكار لهذه الاعتصامات المتواصلة وكل هذه المطلبة التي تريد حلولا فورية؟
الاعتصامات ظاهرة صحية وذلك لفقدان الثقة في التعويل على الحكومة وضحالة أدائها لحد الآن كما أنها تجسد الإصرار على ان تستمر الثورة إلى أن تحقق مشوارها بالكامل أي أهدافها التي لا يمكن التراجع عنها واعتقد انه من واجب الحكومة الحالية ان تقدم وعودا سريعة محددة بسقف زمني وجيز لتنفيذ الانتظارات التي جاءت بها الثورة مثل جمعية وطنية تأسيسية ودستور جديد إلى آخره. أما المطلبية في كل القطاعات والمهن والجهات فهي من ناحية ظاهرة صحية تصاحب كل ثورة نتيجة للمعاناة في نقص الحاجات وما حصل من مظالم في السابق عمت على الجميع ولكن من ناحية أخرى ان يطلب الجميع كل شيء وفورا فهذا تمش يهدد الثورة لان الاستجابة لكل الحاجات وكل المطالب والآن وليس غدا هو أمر غير ممكن خاصة إذا عرفنا أن الحكومة الحالية وإدارة الدولة الموروثة عن الماضي غير مؤهلة وغير قادرة كما ان التوقف عن العمل اوعدم احترام القانون أو عدم استتباب الأمن أو حصول الحرق والتدمير والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة كل ذلك يصب في خدمة الثورة المضادة ويضخم الفاتورة التي سيدفعها كل التونسيون. فإضعاف الدولة والإدارة أو الاقتصاد لن يفيد الثورة وتضخيم البعض لأعداء الثورة عبر التشهير المجاني بأناس ربما أخطئوا وهم لم ينهبوا ولم يرتكبوا جرائم بحق البلاد او الشعب كل هذا خطر يجب ان ينتبه له الجميع واعتقدت ان الثورة وان قامت بدون قيادة فإنها قد اندلعت واستمرت وعلى رأسها وفي كل أوساطها عقلاء ووطنيون وديمقراطيون هم يتحملون مسؤولية التأطير لكي لا يقع ما من شأن ان يضر بالثورة.
مستقبل تونس بدأ يوم 17 ديسمبر 2010 وتتوجت البداية يوم 14 جانفي هذا المستقبل كما هو في مشروع الثورة قد نقل بلادنا نقلة نوعية وتاريخية جعلت التونسيين في مستوى رهانات المواطنة والتنمية والديمقراطية والتقدم كما هو حاصل في الدول الغربية أي أننا نعيش بنفس المعايير التي يعيش بها سكان العالم المتقدم بما يعني الفصل الحقيقي بين السلط وحرية الإعلام التي تحققت في الواقع ولم تتحقق بعد في مستوى القوانين التي لم تنقح بعد وحماية كل الحقوق والحريات العامة بمعايير القوانين في الدول الديمقراطية أو بمعايير الأممالمتحدة وانتظر أن يتكرّس السبق التونسي في ميدان حقوق المرأة الذي عبرت عنه مجلة الأحوال الشخصية مستقبلا بعد الثورة من خلال إقرار المساواة الكاملة في الحقوق وفي الحريات كافة بين الجنسين أمام القانون.