يقف شامخا وهو يحمل بين يديه كتابه «المقدمة» ورغم كونه أحد واضعي علم الاجتماع إلا أن تعابير وجهه تخبرنا عن استغراب لما يدور في الشارع الرئيسي الحبيب بورقيبة.. ذلك ما لمسناه من تمثال العلامة ابن خلدون الذي كان محاطا بدبابات ومدرعات وأسلاك شائكة.. «الشروق» قامت بجولة في ذلك الشارع الرئيسي والأنهج المحاذية له لتواكب نبض الشارع بعد الأحداث المتتالية التي جدّت مؤخرا. قد بدت الحياة شبه طبيعية.. مقاه مفتوحة وتجمّعات لشبّان يتجاذبون أطراف الأحاديث اليومية.. فيما كان شقّ آخر يتحدث بكل حرية عن الوضع السياسي في تونس وكل من موقعه يحلّل وينظّر.. وقد صار من المألوف وجود دوريات أمنية متمركزة في أكثر من مكان ولعل النصيب الأوفر لتمثال ابن خلدون حيث التقت به عديد المدرعات والدبابات وقد تبدو الصورة أن الآليات العسكرية تحمي هذا التمثال العريق لكن الأصح هو حماية مقر سفارة فرنسا الذي يقع على الجانب الأيمن من التمثال.. ومع مرور الوقت لاحظنا تجمّعا أمام مقر المسرح البلدي الذي تحول مؤخرا الى مقرّ اعتصامات فقد تجمع عشرات الشبان رافعين شعارات تطالب بالاعلام الحرّ والنزيه والمزيد من إحداث قنوات وفضائيات جديدة والغريب أن بعض المطالبين بحرية الاعلام في ذلك الاعتصام لا ينتمون الى حقله فبعضهم يمتهنون مهن أخرى وأعرفهم معرفة شخصية كمتعاونين ومراسلين وكتاب صحفيين جلّ مطالبهم تصبّ في خانة الغيرة على هذا القطاع الذي نسبوه إليهم! وغير بعيد عن المسرح البلدي قدم بعض المواطنين لرفع بعض الشعارات أمام مقر وزارة الداخلية وسرعان ما تحولوا الى موقع آخر وقد قيل انهم عمال بلدية. وفي ظلّ الأحداث التي تدور بشارع الحبيب بورقيبة التقينا الشاب حسين العاتي أحد المقيمين بالعربية السعودية الذي كان مستغربا لما يحدث وقد بارك نجاح الثورة إلا أنه عاب على بعض الذين يدّعون الحرية.. أمل الشاب حسين العاتي عودة الهدوء والأمن وإشعاع تونس لأن الجميع يحترمونها ولها مكانة هامة وخاصة بعد نجاح الثورة ليختم حديثه بأن البعض خلط بين الفوضى والحرية. رأي آخر شبيه برأي محدثنا حسين هو الشاب منير بن سالم يعمل حلاقا وقد كان يتحدث بدراية شاملة عن الوضع الاجتماعي والسياسي وبنبرة حزينة ذكر أنه لم يعهد تمركز دبابات ومدرعات في شارع بورقيبة وكأننا في حالة حرب بالاضافة الى الفوضى التي صارت معهودة في أكثر من مكان ليختم حديثه بأن الثورة قام بها العاطلون عن العمل لتركب الأحزاب السياسية عن الحدث وصار اللهث وراء الكرسي الغاية الوحيدة دون اعتبار للعاطلين الذين ضحوا بالغالي والنفيس لطرد بن علي.. ويختم محدثنا كلامه قائلا: «انظروا ماذا يحدث: أعمال شغب ونهب وقتل في الأنهج المجاورة»، ليتساءل هل هذه لبنات الثورة؟ وهل هنا نختزل الحرية؟ كلام الشاب عن الأنهج المحاذية للشارع الرئيسي دفعتنا بالتوجه نحو منطقة باب الجزيرة والأنهج المجاورة والتي شهدت أحداث شغب نهاية الأسبوع الماضي وبداية الأسبوع الحالي على خلفية مقتل طالب جامعي من سكان جهة سيدي البشير.. وأثناء توجهنا نحو تلك الأماكن كانت الأوساخ منتشرة هنا وهناك حيث كانت تنبعث منها روائح كريهة تنتظر من ينقلها منذ أيام لكن لا حياة لمن تنادي.. فالأوساخ لم تتحرك من مكانها وبات المشهد مقزّزا وما زاد الطين بلّة أن الكلام المنافي للأخلاق صار ينطق بأصوات عالية متحدية أعوان الشرطة الذين تمركزوا في أكثر من مكان.. وصلنا الى المكان المحدد فبدت الحياة شبه طبيعية مع الحذر الذي بات واضحا على بعض المارة لكن ما كان يبعث الطمأنينة التواجد المكثف لرجال الشرطة في باب الجزيرة وبالقرب من باب جديدة وسيدي البشير لكن المشهد القاتم الذي ظلّ راسخا في المخيلة هو الأوساخ التي احتلت الأماكن والتي قد تكون مصدرا لوجود أمراض إن ظلّت لمدة أطول.