بقلم القاضي : يعقوب قوادر (الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بقفصة وحاصل على الأستاذية في اللغة والآداب الانقليزية) إذا سقط الدستور القائم بعد قيام الثورة سواء كان هذا السقوط فوريا عقب نجاح الثورة أو أعلن عن سقوطه بعد ذلك فان الوضع يثير التساؤل عن النصوص الدستورية التي تسقط. فهل يعني سقوط الدستور سقوط جميع نصوصه؟ أم أن هناك نصوصا لا تسقط بسقوط الدستور؟ يرى فقه القانون الدستوري أن النصوص الدستورية التي تسقط هي النصوص الموضوعية المتعلقة بنظام الحكم الذي قامت الثورة ضده. أما النصوص الدستورية شكلا فقد ذهب غالبية الفقهاء الى بقائها واستمرار العمل بها بعد سقوط الدستور وكذلك الشأن بالنسبة الى النصوص الدستورية الخاصة بحقوق وحريات الأفراد. النصوص الدستورية من حيث الشكل: تسلم غالبية الفقه الدستوري بأن النصوص الدستورية من الناحية الشكلية لا تسقط الدستور بل تظل نافذة المفعول بعد ذلك باعتبارها قوانين عادية. ويفسر الفقه بقاء النصوص الدستورية شكلا بالرغم من سقوط الدستور بأن هذه النصوص لا تتضمن موضوعات دستورية خالصة لأنها لا تتعلق بنظام الحكم وأن أخذها شكل المواد الدستورية يرجع الى وضعها في صلب الوثيقة الدستورية فإذا ما سقط الدستور تنزع منها الصفة الدستورية ويكون لها قوة القانون العادي فقط وتسمى هذه العملية في الفقه الفرنسي بنظرية سحب الصفة الدستورية. ورغم تسليم غالبية الفقه الدستوري بنظرية سحب الصفة الدستورية عن النصوص الدستورية من حيث الشكل فقد وجهت اليها عدة انتقادات من جانب بعض الفقهاء إذ انتقدت هذه النظرية من جانب البعض بأنه يصعب التفرقة بين النصوص الدستورية من حيث الموضوع والنصوص الدستورية شكلا وأن الاختلاف قد يقع في تحديد طبيعة بعض هذه النصوص. وانتقد البعض الآخر هذه النظرية كون الفقه المؤيد لهذه النظرية لم يفرق بين حالتين حالة سقوط الدستور بطريقة تلقائية وحالة الاعلان الصريح عن سقوطه. ويرى هذا الجانب الفقهي أن هذه النظرية يمكن أن تعمل في حالة سقوط الدستور بطريقة تلقائية بمجرد قيام الثورة وتشكيل الحكومة الواقعية أي في حالة سقوط الدستور بطريقة ضمنية. أما في حالة سقوط الدستور بقرار صريح بعد فترة من قيام الثورة ونجاحها فلا يمكن لهذه النظرية أن تنطبق لأنه يصعب القول بأن هذا الإلغاء الصريح الواضح قد استثنى بطريقة ضمنية بعض النصوص الدستورية لأن الإلغاء الصريح انما يعني الغاء جميع النصوص الدستورية دون تفرقة بين نص وآخر. النصوص الدستورية الخاصة بحقوق وحريات الأفراد: يتجه معظم الفقهاء الى القول بأن سقوط الدستور لا يؤثر على النصوص المتعلقة بحقوق الأفراد وحرياتهم لأنها لا تتصل بنظام الحكم من جهة كما أنها أصبحت واجبة التقديس والاحترام من جهة أخرى إذ يقال أنها استقرت في الضمير الانساني وأصبحت أسمى من النصوص الوضعية(مثال ذلك قرينة البراءة، الحق في محاكمة عادلة، حرية التنقل، الحق في العمل...) غير أن البعض لا يسلم ببقاء النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات الفردية على حالها بعد سقوط الدستور لأن الثورة قد تتجه الى تغيير المفهوم الذي كان سائدا لهذه الحقوق والحريات في الدستور الملغى. إثر الثورة على القوانين العادية: من المسلم به أن قيام الثورة لا يؤثر على التشريعات العادية المتنوعة كالقانون المدني والقانون التجاري والقانون الجنائي وغيرها من القوانين إذ تظل قائمة نافذة الى أن يتم إلغاؤها بالطرق العادية لإلغاء القوانين سواء صراحة أو ضمنا. وبصورة عامة فما دام الشعب هو الذي يضع التنظيم الدستوري الذي يسود المجتمع فيكون له بالتالي حق إلغائه وإحلال آخر محله، ويستوي في ذلك أن يتم هذا الإجراء من جانب الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء الدستوري أو طريق غير مباشر بواسطة هيئة تأسيسية يتم انتخابها لهذا الغرض. 2 كيفية وضع دستور جديد على إثر نجاح الثورة: يتم وضع الدستور في صورة نجاح الثورة إما عن طريق الشعب مباشرة أو عن طريق هيئة تأسيسية لإحلاله محل الدستور الملغى حتى يكون ملائما والظروف السائدة الجديدة. 1 صدور الدستور عن طريق مجلس تأسيسي: يقوم في هذه الحالة الشعب بانتخاب مجلس يتولى وضع الدستور وتبعا لذلك يصدر الدستور ويصير نافذا بمجرد إقراره من جانب المجلس التأسيسي دون أن يتوقف ذلك على موافقة أحد، وتعد هذه الطريقة أكثر انتشارا في الوقت الحالي لكونها أقرب الى الديمقراطية الصحيحة. ويتطلب الفقه حتى يكون الدستور صادرا عن مجلس تأسيسي أن يكون أعضاء هذا المجلس منتخبين من قبل الشعب إذ لا يجوز تشكيل هذا المجلس عن طريق التعيين وإلا كان الدستور في هذه الحالة صادرا عن لجنة فنية كانت أو غير فنية لا عن مجلس تأسيسي. وإذا كان المجلس التأسيسي يتم انتخابه من قبل الشعب خصيصا لوضع الدستور فإن عمله ينتهي بالانتهاء من صياغة الدستور وإقراره. 2 صدور الدستور بطريقة الاستفتاء الدستوري: إذ يتم وضع مشروع الدستور عن طريق لجنة فنية تقوم بمجرد تحضيره وإعداده ثم يعرض هذا المشروع على الشعب لاستفتائه فيه. وقد ذهب البعض أنه لا يجب أن يكون إعداد وتحضير مشروع الدستور من عمل لجنة بل يفضل أن يكون إعداد هذا المشروع وتحضيره من عمل مجلس منتخب وبذلك يمارس الشعب سيادته بطريقة غير مباشرة في المرة الأولى حين يقوم المجلس المنتخب بإعداد مشروع الدستور. وبطريقة مباشرة حين يتم عرض هذا المشروع للاستفتاء فتتحقق بذلك الديمقراطية بشكلها المثالي. لكن يرى البعض أن الاستفتاء الدستوري يجرى غالبا دون أن تسبقه مناقشات كافية تتيح للشعب خاصة طبقاته المثقفة الوقوف على حقيقة الدستور المستفتى عليه ووجهات النظر المتباينة حول ما تضمنه من مبادئ وأحكام حتى يستطيع الشعب القيام بعملية الترجيح بين هذا الاتجاه أو ذاك غير أن هذا القول يرد عنه بمنح مهلة كافية للشعب لدراسة مشروع الدستور وتقليب وجهات النظر وتمحيص الآراء بشأنه بروية. ويبدو هنا أن الحوار مع الجماهير أمر ضروري لكل ثورة حقيقية وذلك في الواقع ما يميز الثورة عن الانقلاب، فمن الطبيعي الا يتوقع الانسان مثل هذه العلاقة الحوارية مع الانقلابيين، فالانقلابيون لاهم لهم الا أن يكتسبوا الشرعية بكل أساليب الخداع الممكنة أما الثوريون فلا بد لهم أن يقيموا نوعا من الحوار الشجاع مع الناس ذلك أن شرعية وجودهم انما يستمدونها من ذلك الحوار فهم لا يخافون اراء الناس أو مشاركتهم الفعالة في السلطة فالتحاور مع الشعب ليس ضربا من التنازل أو الهبة وليس هو وسيلة لتأمين السيطرة بل هو عامل مهم لمعرفة العالم من أجل استعادة انسانية الانسان. وبذلك فانه يتحتم على كل من يتصدى لقضايا الناس أن يراجع نفسه مرات ومرات ولا يتركها للأهواء والعواطف إذ من يتصدى لأمر تحرير الشعب ولا يستطيع أن يتفاعل معه متهما إياه بالجهل هو في الحقيقة مخادع لنفسه. المراجع : د . عبد الغني بسيوني عبد الله القانون الدستوري المبادئ العامة للقانون الدستوري القاهرة 1990. د . كمال الغالي مبادئ القانون الدستور والنظم السياسية دمشق 1990 د. إبراهيم عبد العزيز شيحا القانون الدستوري 1982. Marcel précot: historie des idées politiques -4 édition-précis Dalloz A: Hau Riou et j.GieQuel : Droit constitutionnel et institutions politiques1980