كنت قد نشرت على صفحات جريدة «الشروق» بتاريخ 7 فيفري 2011، مقالة بعنوان «هواجس المواطنين بين تصريحات الاستاذين راشد الغنوشي وعياض بن عاشور»، وقد عبّرت فيها خاصة على ضرورة إمضاء جميع الأطراف السياسية الوطنية، قبل خوض أي انتخابات على ميثاق يعترف بحصيلة المكاسب المحقّقة في بلادنا منذ انطلاق الحركة الاصلاحية الى غاية اليوم، وخاصة منها مجلة الأحوال الشخصية في نصها وروحها، على أن ينص هذا الميثاق على أن هذه المكاسب الحداثية اختيار نهائي للشعب التونسي لا يقبل التراجع. من أي طرف وبأي تعلّة وفي أي ظرف، خصوصا أن جميع ممثلي الاحزاب السياسية يمينا ويسارا لا ينفكون يكررون على الشاشات والمنابر تمسكهم بهذه المكاسب. ويبدو أن هذه المقالة قد أثارت غضب بعض الاطراف التي تصرح بشيء وتضمر صدّه، فانهال على البعض شتيمة وتثريبا لأني أردتهم توثيق ما يصرّحون به اليوم حتى لا ينسوه أو يتنكرون له غدا. وبما أنني كنت متغيبا في الخارج، فإنني لم أطلع على بعض هذه الردود الا مؤرخا، ومنها مقالة منشورة في «الشروق» بتاريخ 26 مارس 2011، بعنوان «الى الأستاذ عياض بن عاشورك ارفعوا الحصانة عن مجلة الاحوال الشخصية» بامضاء شخص سمّى نفسه الاستاذ محمد فرح، ولعله اسم مستعار، لأنني لم أسمع بهذا الاستاذ من قبل، ومهما يكن الامر فإن هذه المقالة في ذاتها لا تستحق الرد لأنها مجرّد مجموعة من الشتائم وسوء الفهم وقلة المعرفة. ولم يلتزم فيها صاحبها حتى بأبسط قواعد آداب الحوار الاسلامية القائلة: «وجادلهم بالتي هي أحسن» رغم تنصيبه لنفسه منافحا عن الاسلام في حرب دنكيشوطية وهمية، لأن الاسلام في تونس ليس في حرب مع أي كان. غير أن ما دفعني الى كتابة هذه الاسطر هي تلك الروح التي تنضح بها مقالة الاستاذ محمد فرح بل والتي تنضح بها عشرات المقالات والخطب والبيانات التي تكاثرت على الساحة في الآونة الأخيرة تكاثر الطحالب والفطريات السامة على هامش غيث الثورة النافع. وهذه الروح أكّدت صدق توجساتي وتوجّسات عديد المواطنين والمواطنات غيري، لأنها روح عصابية مغتربة عن العصر والواقع، بل وتعكس انفصاما مرضيا يصبح خطيرا عندما يتخذ شكلا جماعيا يهدد فعلا المكاسب الوطنية، وقد يبلبل السلم الاجتماعي بالتجييش والتحريض على العنف وممارسته. وليس أدلّ على ذلك من تلك الجحافل المسلح بعضها بالسكاكين والسيوف والعصي واللحي الكثة والتي أخذت تظهر في عديد المناطق من البلاد، تروّع الناس بالتكفير والتحليل والتحريم، وتهاجم «العلمانيين واللائكيين» دون أي فهم لمدلول المصطلحين، وتغزو دور العبادة لغير المسلمين طلبا لثواب فتح سهل، بل وتغزو حتى مساجد المسلمين التونسيين من إخواننا الاباضيين بل وأكثر من ذلك فهم يهاجمون أيضا المسلمين من أهل السنة في بعض المساجد ليفرضوا عليهم غير ما ألفوا من طقوس تعبدية سار عليها آباؤهم وأجدادهم منذ عهد الإمام سحنون. والأدهى أن أحدهم نصب له خيمة في رأس جدير وأحاط نفسه «بصحابة مجاهدين»، وأعلن نفسه أو أعلنوه «أمير المؤمنين»، ولا حجة له في ذلك إلا لحية كثة وثوب أفغاني مشمر وطابع أسود على الجبين. قد يشعر القارئ في كلامه بشيء من السخرية، ولكنني ما قصدت ذلك، وإنما أنا مشفق ولائم: أنا مشفق على هؤلاء الشباب من أبنائنا وإخواننا لأنهم دفعوا الى مثل هذا الوضع عندما انسدّت في وجوههم السبل، وظلوا طويلا يتفرجون عاجزين على شبابهم يتسرب كالماء بين أصابعهم دون ان يعيشوه، ويشاهدون أحلامهم تسرق منهم ولم يتمتعوا منها حتى بلذّة الحلم. ولم يجدوا أمامهم من مهرب غير ما توفّره قنوات فضائية خليجية جعل أصحابها من غسل أمخاخ الشباب العرب والمسلمين فريضة زكاة تريح ضمائرهم البترودولارية، فتفنّن خبراؤهم الدعائيون بالكلمة والصورة في وصف أهوال القبر ومنكر ونكير التي تشيب الرضيع وفي المقابل تلوّح للمتّقين «بجنات عدن تجري من تحتها الأنهار»، فيها ما لذّ من الأكل والشرب والمنكح، ولا ثمن لذلك الا التضحية بالنفس (ما دام ليس لهؤلاء الشباب نفيس) في سبيل إرغام الغير على اتباع «السراط المستقيم» في الملبس والمأكل والسلوك والطقوس. وأنا لائم لأولائك الذين تخلّوا عن واجبهم في الحوار الجاد والمتأني مع هؤلاء الشباب بتوخي المناهج البيداغوجية المناسبة. وما تخليهم عن هذا الواجب الا حفاظا على حساباتهم الحزبية قاصرة النظر. ولا شك أن اللوم يتوجه اكثر الى قادة التيار الاسلامي وخاصة حزب النهضة والشيخ عبد الفتاح مورو ومن معه، فهؤلاء بحكم انتمائهم الفكري الى نفس المرجعيات التي ينتمي إليها هذا التيار من السلفية «الجديدة»، هم الأنسب موقعا لفتح باب الحوار العلني معهم دون تحرّج من تخطئة توجهاتهم والاطروحات التي تروج بينهم بعيدا عن الحسابات الانتخابوية. وللأسف فإنه بدلا من ذلك وفي الوقت الذي يتنافس فيه بعض الزعماء الاسلاميين على التأكيد على تبنّيهم لمطلب تحييد المساجد عن الصراعات السياسية، ويشدون بحرارة ملفتة على أيادي خصومهم التقليديين من شيوعيين وتقدميين، نراهم يتنافسون بنفس القدر أو أكثر، على إلقاء الخطب «والمواعظ» السياسية من على منابر المساجد، حيث يتنافسون أيضا في الترويج لأشدّ القراءات الدينية انغلاقا. لا شكّ أن هذا السلوك يفتقر الى الحد الأدنى من المصداقية وإذا تمادوا فيه، وهم متمادون، فإنهم يكونون كمن يستغبي الاطراف الاخرى ويلعب معهم «لعبة الحلاّب» كما يقول مثلنا الشعبي. ولكنّ الاخطر في كل ذلك هو أن سكوتهم عن سلوك هؤلاء الشباب من «السلفيين الجدد»، ومحاولة استعمالهم في حسابات حزبيّة ظرفية سينقلب وبالا على البلاد بأسرها وسيكون حزب النهضة بجناحيه الغنوشي والموروي من أكثر الخاسرين من ذلك على المدى المتوسّط والبعيد.