يعيش التونسيون يوميا على وقع الثورة ويتطلعون دون خوف أو توجس الى تحقيق طموحاتهم المشروعة في العيش الكريم والمشاركة الفعلية في تسيير شؤون بلادهم والقطع نهائيا مع ممارسات الاقصاء والوصاية. ولا يستثني ذلك الديبلوماسيين الذين عاشوا أسوأ فترات حياتهم المهنية خلال السنوات الماضية حيث ذاقوا مرارة التهميش وعاينوا انحسار الدور الديبلوماسي وتقلصه في كافة المنابر الاقليمية والدولية. ولم يكن ذلك ناتجا عن عجز أو قسور لدى أبناء وبنات المهنة التي عرفت في وقت سابق اشعاعا كبيرا كان له أفضل الأثر على مصالح بلادنا السياسية والاقتصادية بل كان حصيلة ممارسات فوقية عمدت لترويج شائعات ماكرة للنيل من سمعة الديبلوماسيين الذين قالوا عنهم إنهم يفتقرون الى الحس السياسي وأنهم غير وطنيين بما فيه الكفاية وأنهم ماديون يريدون فقط الانتفاع من مناصبهم. وقد مهّد ذلك لازاحة أصحاب المهنة وتعويضهم على رأس مراكزنا الديبلوماسية والقنصلية بشخصيات تونسية من مختلف الانتماءات الحزبية والبرلمانية والجمعياتية وغيرها، قاسمها المشترك في ذلك عدم الالمام بمهنة الديبلوماسية التي ككل مهنة أخرى تتطلب التدريب الطويل والممارسة الفعلية والتمرس في فنون هذا الاختصاص. وقد عاب علينا بعض شركائنا الأوروبيين في بعض المناسبات لجوء المسؤولين السابقين المفرط الى التعيينات خارج الاطار الديبلوماسي. وما كنا لنثير هذا الموضوع لولا استئثار الوافدين علينا من خارج الوزارة بنسبة من التعيينات تفوق ستين في المائة من المواقع الشاغرة وهو ما أثار حفيظة العديد من زملائنا الذين أطلقوا العنان لنقد هذه الممارسات والاحتجاج عليها علنا. وحتى لا نظهر للرأي العام بمظهر السلك الذي يمارس الاقصاء بدوره، يجدر التذكير بأن الأغلبية الساحقة من دول العالم تعتمد قاعدة تعيين أصحاب الاختصاص لتمثيلها في الخارج ولا يشمل الاستثناء سوى خمسة أو عشرة في المائة من المراكز الشاغرة التي يمكن لرئيس الدولة أن يعين فيها من يراه صالحا. وإن الظرف التاريخي الجديد الذي تعيشه بلادنا يحتم علينا العمل بما هو سائر واعتماد التقاليد الديبلوماسية العريقة التي ثبتت جدواها ودرجت عليها كافة دول العالم. كذلك يحتم علينا واقعنا اليوم نبذ الممارسات المستهجنة التي تتوخى تهميش وتحقير مخزوننا الديبلوماسي الذي يزخر بالكفاءات ويتحفز لاعادة الاشعاع لديبلوماسيتنا التي كانت لها جولات وجولات في المحافل الدولية. لقد تداول على وزارة الشؤون الخارجية منذ الاستقلال اثنان وعشرون وزيرا بدءا بالزعيم الحبيب بورقيبة وبعده الصادق المقدم والمنجي سليم والحبيب بورقيبة الابن. وقد عايشت شخصيا فترة تولي تسعة عشر وزيرا، بدءا بالحبيب بورقيبة الابن الذي أوشك على نهاية مهمته على رأس وزارتنا حين التحقت بها في مارس 1970 مرورا بمحمد المصمودي والحبيب الشطي والباجي قائد السبسي ومحمود المستيري والحبيب بولعراس والحبيب بن يحيى وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم وكشاهد على تلك الفترة، يؤسفني أن ألاحظ أن دبلوماسيتنا الناجزة برجالاتها ومبادراتها على مدى ثلاثة عقود ونصف بعد الاستقلال حيث كان لها صوت مؤثر وأسلوب مميز في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مجموعة السبعة وسبعين وفي افريقيا والعالم العربي وأروبا وغيرها من مناطق العالم، قد تردت في السنين الأخيرة في أوضاع شلّت حركتها وحولتها الى جهاز هجين ومغيّب تتقاذفه الولاءات للأشخاص لا للمصلحة العليا للوطن. إن الديبلوماسية هي الآلية الأساسية التي يتم من خلالها انجاز خيارات السياسة الخارجية للبلاد وكما يكون القائمون عليها يكون التنفيذ، فإن عهد بالأداء الديبلوماسي الى سفراء وقناصلة متمكنين من اختصاصهم كانت الرسالة واضحة جلية لا تشوبها شائبة ومطابقة لروح الخيارات التي تم اعتمادها وإن عهد بها إلى من لا خبرة له فسيكون النتاج حتما رديئا ومشوّها. وإذا كان رحم الثورة هو الوعاء الذي تنبثق منه خيارات السياسة الخارجية التونسية فلا بد أن يكون الأداء الديبلوماسي في مستوى طموحات ثورتنا التي فاجأت العالم بتلقائيتها ونقاوة أهدافها. فكيف نرد الاعتبار لديبلوماسيتنا في هذه المرحلة التاريخية الحساسة؟ قبل كل شيء القطع مع ممارسات السنوات الماضية والاعتراف بالدور الذي لعبته ديبلوماسيتنا في المحافل الدولية لسنوات طويلة كانت فيه العديد من الدول الشقيقة والصديقة تحذو حذونا في صياغة مواقفها إزاء القضايا المطروحة ولعلّ سياستنا حول القضية الفلسطينية والشرق الأوسط والتعاون الأورومتوسطي والتنمية المستديمة ووضع المرأة خير دليل على ذلك لشجاعة تلك المواقف وواقعيتها. تجديد الثقة في أصحاب المهنة الذين همّشوا طويلا والعمل بمقولة «خلّي الخبز لخبّازو» والعمل بقاعدة الانتداب من ضمن الديبلوماسيين لتعيين السفراء والقناصلة واللجوء الى الاستثناء في حالات قليلة فقط. اطلاق حرية الأداء الديبلوماسي في اطار الخيارات المحددة وعدم تكبيل المهنة بضرورة الرجوع في كل كبيرة وصغيرة الى مصدر القرار حيث يحسب للديبلوماسية المتطورة والناجزة سرعة التحرك وأخذ المبادرة والقدرة على الاستشراف واصطياد الفرص التي تمكن بلادنا من الاشعاع والتميّز. تفعيل دور المعهد الديبلوماسي وتعزيزه بالكفاءات للقيام بالدراسات والتحاليل التي تنير السبيل للتخطيط والاستشراف وهو ما دأبت البلدان المتقدمة على القيام به خدمة لمصالحها الآنية والآجلة. فهل توظف بلادنا الكفاءات الديبلوماسية المتقاعدة للمساهمة في هذا المجهود الوطني الضروري؟ تعيين مستشارين ديبلوماسيين طبقا لما ينص عليه مرسوم 1984 المنظم لوزارة الشؤون الخارجية والذين تم اختيارهم من ضمن الوزراء المفوضين خارج الرتبة ممّن باشروا مهمة سفير، حي يساهموا بخبرتهم في تقديم المشورة لوزير الخارجية، مع العلم أن تعيين المكلفين بمهمة في ديوان الوزير لا يخضع لنفس شروط الأقدمية والرتبة. تكريم بعض السفراء ممن أدّوا خدمات جليلة لبلادهم بمنحهم صفة سفير تونس مدى الحياة. أما على الصعيد الديبلوماسي فإن الحاجة أصبحت ملّحة لتعيين سفرائنا الجدد بالبلدان الشقيقة والصديقة، حيث سيكون لهم دور فاعل في التعريف بثورة 14 جانفي وبخياراتها وأهدافها. وإن بلغ صدى الثورة التونسية بعد كافة أرجاء العالم منذ قيامها، فإن مهمة ديبلوماسيتنا في الخارج تهدف أساسا الى توظيف ذلك الحدث العظيم وما أثاره من اعجاب لدى الرأي العام الدولي لخدمة مصالح تونس السياسية والاقتصادية وخاصة منها جلب الاستثمار وتسويق منتوجاتنا وخدماتنا وفتح آفاق جديدة لتموقع بلادنا على الصعيد الدولي. بقلم: محمد اليسير (سفير رئيس الوفد التونسي في مفاوضات «الشريك المتقدم»