هو أحد القامات التي تفخر بها المدونة الشعرية التونسية والعربية.. سليل عائلة تربت على النظم والابداع في صياغة قصائد ذات ملامح إنسانية بقيمها النبيلة. مدافع شرس عن اللغة العربية وحافظ دقيق للشعر الشعبي حيث قضى ردحا من حياته المهنية مشرفا على إدارة الشعر الشعبي بوزارة الثقافة جامعا ومنظما وموثقا لهذا المتن من الابداع الذي يستمد جذوره من الموروث الإبداعي التونسي. هو الشاعر محيي الدين خريف المعتكف بمكتبته الغنية بالمؤلفات والكتب النادرة استقبلنا عشية الثلاثاء الماضي ليتحدث ل«الشروق» عن ثورة 14 جانفي فكانت هذه الحصيلة. ٭ كيف عشت وتابعت ثورة 14 جانفي؟ الشعراء يسبقون العاصفة وينذرون بها قبل أن تبدأ ونحن الثورة شفنا برقها من قبل أن تندلع وأنا أحبّ هذه الكلمة لأنها بنت النار ولما جاءت وفار القدر وأخرج الربيع أزهاره وعمّر الشباب الرائع الطرقات كنت ألاحظهم من بعيد وأنا واثق ومطمئن بأنهم سوف يصلون إلى غايتهم لأن الذي عندهم ليس عندنا نحن الشيوخ وإن كانوا هم بذارنا في هذه الأرض والذين نترسم خطاهم في فترة ما كان اليأس يضرب بأجنحته أفئدة الناس ويظنون شرا ويتهاونون بهذا الشعب وبشبابه ويرمونهم بالخنوع والرضا والرضوخ للظلم والنهب والسلب والقناعة بما هو كائن وكم يعجبني هنا قول أحمد شوقي. شباب قنّع لا خير فيهم ٭ وبورك في الشباب الطامحين وجاء الشباب بطموحه فاقتلع الجذور ووقف وقفة غيّرت كل ما كان يظنّ به الظنون وأنا حسب رأيي لا أتهاون بالشعوب فهي الرماد الذي تختبئ تحته النار والشعب لا يركن للظلم وإن ركن إليه فلوقت ما سنة أو سنوات ثم تشتعل النيران لتأتي على اليابس الذي امتص ماء الأرض وأكل سماءها ويعجبني هنا قول شاعرنا العظيم أبو القاسم الشابي. ألا أيها الظلم المسعّر خده رويدك إن الدهر يبني ويهدم أغرّك أن الشعب مغض على قذى لك الويل من يوم به الشر قشعم ومن هنا تظهر النبوءة، نبوءة الشاعر الذي سبق الأحداث وفرحي بالثورة مشوب بالخوف والحذر من أعدائها وهم كثر ولكنّني أؤمن بالشباب الذي يتّبع كل صغيرة وكبيرة من الحوادث الجارية وهو الذي نأمل منه أن يعدّل الكفّة إن مالت ويأسو الجرح إن خمّ ويعيد الهواء إلى أنوفنا ويفتح جنّات عدن التي كانت معلقة ونحن واقفون على أبوابها والشيء الذي تميله عليّ التجربة هو الصبر قليلا على ما يقع وما سوف يقع لأن جني الثمار في الابان لا يكون ولكل شيء مرحلة تتبعها مراحل وخطوة تتبعها خطوات. فالأمر الجليل والذي كنّا لا نتصوّره قد وقع وذهب الذي كان سببا في جلب الكوارث على هذه البلاد وبقي ترتيب الدار ولكل شيء إبّان وإن استعجلنا الأشياء فربما تحكون علينا لا لنا وثورة بلادنا كانت مفاجأة لكل العالم لا أستثني مكانا بعيدا أو قريبا فلا نستعجل ما يأتي بعد الثورة ولا نطلب المستحيل منها فكلّ شيء يأتي في وقته وبالنظر البعيد والتخطيط والنظام ولكني ألحّ على شيء وأضع سطرا أحمر تحت الكلمة التي سوف أقولها وهي الأمن فإذا توفر الأمن فسوف يأتي شيء وننعم بمردود ثورتنا. ٭ من هم أعداء الثورة من منظورك الخاص وأنت الذي أشرت إلى أن فرحك بها مشوب بالخوف والحذر؟ المخاوف في قلوبنا، أما الأعداء فهم في أغلب الأحيان لا يظهرون وإنما تظهر أفعالهم ولا أقول إنهم جنود الخفاء وإنما أقول إنهم خرّاب الخفاء الذين لا يفرحون بالنصر ولا يعيشون إلا في المستنعقات وليس هناك حركة أو ثورة ليس وراءها عداء ولكن الشيء المؤكد أن نعرف كيف نعامل ما يأتي منهم وأن نقتل الخوف من أحقادهم وليس هناك عدوّ في ثياب صديق فالعدو عدوّ إلى أبد الآبدين والصديق صديق وشبابنا ومن يقوم على أمور بلادنا يعرفون كيف يحافظون على مكاسبهم بالطرق الحضارية لا بالحقد والبغضاء والتشفي والدم المنهار والفوضى التي ليس لها ميزان وأنا كفرد محبّ لبلاده أتيقن بأن ما يقع الآن من بعض الثغرات هو سحابة صيف عن قريب تقشع وفرحي بأن الذين يسهرون ولا ينامون يعرفون كيف يجلون السحب وكيف يطلعون الربيع إذا تفتح أزهاره وتغني أطياره والمتشائمون كثر وهم يتشاءمون لعجزهم عن العمل الجاد وعدم نظرهم إلى بعيد فالزمان الذي نحن فيه غير زمن اليأس والرضوخ للواقع فالتحوّل في هذه الأيام يأتي بسرعة وإن لم يأت فهناك من يجري وراءه ويجبره على المجيئ. ٭ الآن وقد أعلنت ثورة 14 جانفي الحرية للجميع.. كيف يبدو لك دور المثقف مستقبلا بعبارة أخرى ما هو المطلوب من المثقف بعد الثورة؟ المثقف وهي كلمة كانت غائبة وتغطّت في العهد البائد بأغطية التبجّح والمهرجانات الفاشلة والصحافة المعطلة والاذاعات التي هجرها كل الناس والتلفزات التي غرّبوها وذهبوا يبحثون عن قنوات ترضيهم وتقنعهم. ونعود إلى الثقافة فدولة لا تبني صروحها على الثقافة دولة مهمّشة يغريها الجهل ويدفع بها إلى الضياع. فالاسترخاء والكسل ومشاهدة التوافه من الذي تبثه الوسائل المسموعة والمرئية لا يسمن ولا يغني من جوع وقد غاب الكتاب الذي هو الأساس في بناء المثقف الحقيقي والعجيب أنه غاب في عالمنا العربي وفي تونس بصفة مهولة ولم يغب في البلدان المتقدمة: روسيا وفرنسا وأمريكا وآسيا بشعوبها. ونرجو من رواد الثقافة أن ينهجوا نهجا جديدا في ما يقدمونه للناس، فالادعاء والغرور بما يكتبه الشباب قد تعدّى كل الحدود ولعلّ الصحافة المكتوبة التي تنشر كل شيء لها اليد في ذلك وهي ليست اليد العصية ولكنها التي ترضى بأي شيء وتقدم أي شيء ونرجو أن يتصدى النقاد سواء من الجامعة أو من خارجها لغربلة ما ينشر وما يذاع ووضع الأشياء في أماكنها وإقصاء المتشرذمين وهم الذين يعرفون أنفسهم فالمثل الشعبي يقول: «سارق الدجاج على رأسه الريش». فيجب أن نتصدى إلى من يتساهل ولمن يبني على لا شيء ونرجو من وزارة الثقافة أن تعيد نظرتها إلى الثقافة ووراء هذه الكلمة أشياء وأشياء لا يسعنا في هذا المجال أن نفصّل ونبيّن ونضع أصابعنا على مواطن الداء والداء معروف والذي تسبّب فيه المرتزقة والمدّعون والذين يأتون البيوت من خلفها وعلى كلّ فنحن نطلب التجديد في كل شيء في الغناء وفي ما ينجز في ميدان الثقافة ونغربل بإبعاد ما يزيف ويأتي اليوم لنبحث عنه غدا فلا نجده. وأرى أن كثرة التظاهرات والمهرجانات التي تملأ كل فضاء في البلاد غير ذات جدوى فابحثوا أيها الساهرون عن حظوظ الثقافة عن مجالات أخرى توقظنا وتوصل قديمنا بحديثنا فنحن أمة الكلمة وأمة «اقرأ» وتراثنا المكتوب يحسب بالملايين والعجيب أن من يكتبون اليوم لا يقرأون وقد سمعت شعراء كبارا لا يعرفون شيئا من تراث أجدادهم وكتابا ونقادا يمشون بغير هدف وأريد وهذا رأيي أن نرجع إلى تراث تونس وأن لا نتمشرق أو نتجه إلى الغرب لنأتي بالجاهز كسلع اليابان والكوريتين وما شابه ذلك. فتونس ترغب أن يكون كتابها تشتم فيه رائحة تونس وأغانيها من صميم وجدانها وأن لا نضرب صفحا عن تقاليدنا فالخصوصية هي التي تعطي الخلود لما يكتب أو يسمع وأعود فأقول ابنو دولتنا على الثقافة وغيروا في مناهجكم التعليمية بما يتماشى مع حضارة بلادنا وانظروا إلى ما بداخلكم فصوغوه شعرا ونثرا وتجنبوا التقليد الأعمى «وما أضيع البرهان عند المقلّد». ٭ ما يشدّ الانتباه في كل المنابر والنقاشات السياسية للأحزاب والمنظمات غياب الطرح الثقافي في هذه النقاشات.. ما هو تفسيرك لهذا الأمر؟ الثقافة يعتني بها الانسان المثقف وهؤلاء الذين يجتمعون على موائد النقاش ويعيدون الكلام مرارا وكأنهم يطحنون في الماء لا يعترفون بالثقافة لأنهم يتبعون طريق التسييس في كل شيء وهم محترفون يجرون وراء موارد رزقهم وليست لهم اهتمامات بما يكتب أو ما يؤسس لفكر صحيح أو يدعم الهوية الثقافية في هذه البلاد وأنا أتوسم خيرا في وزير الثقافة المؤقت الذي خرج من خيمة الثقافة ويعرف الكثير عن الموارد والمصادر الثقافية أن يصنع شيئا للنهوض بالثقافة في هذه البلاد ولا أغفل الوسائل السمعية والبصرية (الاذاعة والتلفزة) لأنها هي أيضا لا تقدم مادة دسمة في هذا المجال ولا تعطي الثقافة حقها ورغم أن هناك إذاعة ثقافية إلا أن ما تقدمه قليل بالنسبة إلى ما يجب أن يقدم وفي هذا المجال دائما تغيب وجهة النظر الفردية على ما نسمع وهم في اختياراتهم حذرون جدا من التعمق في الثقافة التونسية وفي ذكر رموزها وأعلامها ونتاجها القديم والحديث وتدخل هنا الأغنية وهي من عناصر الثقافة فنحن لا نسمع إلا ما أنتجه غيرنا ويعاد مرارا وتتكرّر الأغنية حسب شهوة المنشطين فكأنهم يريدون أن يرفعوا مستوى غيرهم بأذواقهم وهذا لم يقع إلا في إذاعات تونس وقنواتها التلفزية، فلم نر المشارقة ولا المغاربة يلتفتون إلى أغانينا ولا يولونها الاهتمام وفي الجزائر والمغرب وليبيا لا نسمع إلا أغانيهم التي تحمل طابعهم وأوزانهم وأحاسيسهم وحسهم الشعبي وعراقتهم. ونحن بعد الثورة نرجو من المشرفين على هذه المؤسسات أن ينبشوا في خزائنهم وأرشيفهم الغني جدا عن أغانينا المطبوعة بطابعنا وأن يكتوا ويلحنوا الجديد البعيد عن النوايا التجارية والبيع والشراء.