(مساعد في القانون بجامعة قرطاج) أصبت بحالة من الغثيان لمّا قرأت ذاك المقال الذي كتبه مستشار الدائرة الجنائية بمحكمة سوسة والذي نشر بجريدة «الشروق» بتاريخ 14 و 15 مارس 2011، تحت عنوان «دولة القضاء...» سأعتبر صاحب ذاك المقال صديقا لأنه صدقني القول وأبدى كل ما بنفسه من تلقائية وعفوية وبداوة ولم يخف المسافة التي تفصله عن المدنية وعن التحضّر... لقد كان أسلوب صديقي هجينا وبدون هويّة. فقد جاء في كلامه ما تيسّر من القرآن الكريم ولكن جاءت فيه أيضا بعض الإيحاءات التي تخدش الحياء وكان في أسلوبه بعضا من الحكم وكثيرمن السجع ومن الأساليب البلاغية التي ذكرتني بمقامات بديع الزمان الهمذاني وبالمقامات عموما التي ظهرت في القرنين الرابع والخامس للهجرة والتي أنبأتنا ببداية عصر ركود الحضارة العربية الإسلامية لأنها غلّبت الشكل والصورة والتكلف والتصنع والركاكة على الأصل والجوهر... ولكن جاء في كلامه أيضا بعض الأسلوب الفكاهي القريب من الدارجة التونسية وهو أسلوب طغى على الصحافة التونسية في النصف الأول من القرن العشرين... وهنا تساءلت: في أي عصر يعيش صديقي؟ هل يحيا في القرن العاشر أم في القرن العشرين ميلادي؟ يبدو انه منفصم ومتمزّق أو ممزّق بين زمنين هما من الماضي. إذن، الأمر الثابت أنه من غير زماننا هذا وقد يكون كائنا خارج التاريخ... يشير لي صديقي بكل أدب ولياقة بأن عبارة «هاته» لا توجد في اللغة العربية... وأنا أهمس في أذنه بأنه لا وجود لعبارة «هاته» في مقالي. ولكن ما الذي يمنع عبارة ما من الوجود؟ فالعبارة لا توجد نفسها بنفسها بل نحن من يوجدها لأننا أسياد اللغة...، آه، نسيت أن أقول لصديقي بأننا لا نقول «اللغة العربية» بل نقول «اللسان العربي» لأنه ثمة فرق بين اللغة واللسان، لا يتسع المجال لتفصيل القول فيه... يقول صديقي إنه اتصل هاتفيا بدار «الشروق» ليسأل عني فلما قال له مخاطبه إنه لا يعرفني أبحر في الشبكة العنكبوتية فاكتشف أنني أنتمي إلى منظمة «روسيا اليوم» وأنه ثمة لبس حول هويتي...! وأنا أقول له لماذا يسأل عني، هل تقدمت لخطبة ابنته أو أخته... طالما أنه من أصحاب العقليات البالية...؟! ثم ما هذه الأساليب المريبة في التعامل مع مقال أو مع صاحب مقال كتب كلمة حرّة؟ لماذا ارتبك صديقي وارتعدت فرائصه فسارع إلى السؤال عنّي؟ ألا يعلم أن المعاملة بالمثل ممكنة أي أنه بإمكاني التقصي عنه والنبش في ماضيه؟ ألا يعلم أنه إن فعل فعلت...؟ ولكنّي أتساءل: أبهذه الطريقة يتثبّت في هويات وفي أقوال المتقاضين حين يباشر عمله؟ هل يتصل هاتفيا بفلانة ليسألها عن فلان؟ ثم سألني صديقي أين كنت أيام الثورة؟ فما الداعي أن أشارك فيها إن كنت أنتمي إلى منظمة روسية وإن كنت فلسطينيا أو لبنانيا...؟ من المؤكد أنه تناقض فات صديقي أن يتثبّت فيه... كما يقول إنه طالب يوم 15 جانفي 2011، بمحاكمة الرئيس المخلوع... متى فعل ذلك؟! يوم 15 جانفي 2011؟! ألم يبلغ إلى علم صديقي بأنه «لا هجرة بعد الفتح...!» المسكين، يبدو أنه كان آخر المؤمنين بالثورة! يقول صديقي إن مطالبتي بحل السلطة القضائية تمثل خيانة عظمى في حق الشعب وإن هذه الجريمة التي ارتكبتها موجبة للإعدام...! لن أعتبر هذا تحريضا على القتل ولكني أود أن أقول لصديقي بأنه لا وجود لجريمة الخيانة العظمى في القانون التونسي إلا في الدستور الذي وقع تعليق العمل به وهي لا تهمّ إلا أعضاء الحكومة. كما تمّ التنصيص على هذه الجريمة في الأحكام الخاصة بالعسكريين وبالتالي فإنني كمدنيّ غير معني بهذه الجريمة إلا إذا اعتبرني صديقي عسكريا. غير أنّني أريد وبكل براءة، طرح سؤال: أهكذا يمارس صديقي «القضاء على الناس؟» هل يبتدع لهم جرائم غير منصوص عليها في القانون؟... يقول إني ارتكبت جريمة الخيانة العظمى في حق الشعب لما دعوت - كما زعم - لحل الجهاز القضائي... وأنا أقول له إنه بما أنني من البدريّين ومن أصحاب «شرف السابقة التاريخية» (كما يقول الدكتور هشام جعيط). فإني أريد إعلامه بأننا من بين الشعارات التي كنا نرددها، نحن أبناء الشعب التونسي، يوم 14 جانفي 2011، أمام مقرّ وزارة الداخلية هو هذا الشعار: «محاكمة شعبية لعصابة الطرابلسية» وبالتالي فإننا لم نطالب، نحن أبناء الشعب التونسي الذكي والفطن، بمحاكمة قضائية لعصابة الفساد بل طالبنا بمحاكمة شعبية لتلك العصابة... واللبيب من الإشارة يفهم! فهل جرى عرف صديقي على أن ينتصب لمحاكمة كل من يخالفه الرأي؟ وهل يعدّه مناوئا ومرتكب خيانة عظمى؟ يبدو أنه متطبع بطبع الرئيس الذي خلعنا بسبب بعض هذه الطباع السيئة، بل يبدو أنه أسوأ منه حالا فالرئيس السابق وبعض خدمه من جهاز القضاء لم يتّهموا أحدا بالخيانة العظمى، أما صديقي فقد فعلها إذ يبدو أنه مستبدّ يحب أن يوافقه الكلّ الرأي وانه يشعر أنه قد وقعت خيانته في حال التعبير عن رأي مخالف...! يقول صديقي إن «القانون وحده يفصل بين الجميع...» ثم يقول إنه وسائر القضاة أسيادي... فعن أي قانون يتحدث صديقي؟ ألم يبلغ إلى عمله أن عهد الأسياد والعبيد قد ولّى منذ زمن بعيد؟! ألا يعلم أن الرّق قد ألغي في تونس منذ سنة 1846؟! يبدو أن القانون الذي يتحدث عنه صديقي وربّما يطبقه في عمله، هو قانون الغاب أو قانون حالة الطبيعة أو في أحسن الأحوال، أعراف الجاهلية... أما القانون التونسي الحديث، فلا صلة له به! ويذكر صديقي «من اتبع نزعات الشياطين ونزوات السلاطين وأعنات الباغين وعدوان المعادين ومعاداة العادين وغلب الغالبين وسلب السالبين وغيل المغتالين وحيل المحتالين...» ويحاول أن ينسبني إلى هذه الكائنات «الباغية العادية الجائرة» ثم يضيف إن «كل من يحاول أن يهمش الشعب ويثير الفتنة (..) فهو ذي شبهة لغاية في نفسه...» وتعليقا على هذا الكلام ومساهمة مني في إنارة سبيل صديقي، أودّ أولا أن أهمس في أذنه بكل لطف ودون أن يسمعني أعداؤه الذين يتحدث عنهم، لأقول له إن الأصح هو أن نقول «ذو شبهة» وليس «ذي شبهة» رغم أن المشرّع يستعمل دائما في مجلة الإجراءات الجزائية عبارة «ذي الشبهة» ولكن يجوز للمشرّع ما لا يجوز لغيره ولا أظنّ صديقي مشرعا إلا إذا نوى انتحال هذه الصفة ولا أظنه فاعلا، ثم يبدو من خلال الكلمات الأخيرة، التي استعملها صديقي والتي نقلتها آنفا، أنه كرئيسه المخلوع، من الجماعة القائلة بأن «كل من ليس معنا فهو ضدنا»... كما بدا لي صديقي المسكين من الشخصيات المصابة بالذعر، فهو يتحدث عن عادين وأعداء وشياطين ويتخيّل أن أطرافا مأجورة تلقت «بعض الدراهم» كما يزعم، تترصده وتستهدفه وتتآمر عليه وعلى أمنه... والعياذ بالله وأنا أدعوه إلى قراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين وإلى أن يسلم أمره لله وإلى أن يوقن بأنه «لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا» وسيشعر، إن شاء الله، بالطمأنينة!. كما أنه أطنب في استعمال مفردات القاموس الجنسي وأغرق في الحديث عن الأنوثة وعن الذكورية وعن الرجولة ووصفني بفقدان هذه الرجولة حتى إنه ناداني «يا عزيزتي»... وهذا أمر يثير الشبهة ويجعل الشك يحوم حول شخصية صديقي... وهذا أيضا ليس ثلبا ولا هو قذف، بل إنه مجرد تشخيص أو وصف لحالة نفسية. كما قال وكرّر مرارا إنه كقاض رسول من الله وإنه خليفته في الأرض، فإن كان مثله رسول الله فإنني سأكفر بالله ولكني أعلم أن حكمة الله أكبر من أن يبعث بمثله رسولا! ولكنني في المقابل تساءلت: هل أن صديقي مسيلمة جديد؟ وهنا وجدتني عاجزا عن غوثه أو تخليصه مما علق به من إثم فأنا لا أملك إلا أن أدعو له بالهداية والصلاح... أما حكاية كونه وسائر القضاة خلفاء الله عز وجل، في الأرض فهي لا تعدو أن تكون سوى محض هذيان، ففي القرآن الكريم لا توجد أية إشارة إلى أن القضاة خلفاء الله في الأرض، فقد جعل الله تعالى البشرية بأكملها ممثلة في أبيها آدم عليه السلام، خليفته في الأرض. كما استخلف سبحانه النبي داود. وأخيرا وعد الله في محكم التنزيل، من آمن وعمل الصالحات أن يستخلفهم وهو وعد لم يخص به الله القضاة دون سواهم. ولكني في المقابل لا أحب أن أقول لصديقي ما افترضه الله ونبيه في القضاة وذلك خشية أن أجرح مشاعر بقية قضاتنا الأفاضل الأبرياء مما قال صديقي فكلام هذا الأخير هو بدعة من بدع آخر الزمان ولا يلوم في شيء سائر قضاتنا الأجلاء.... وأخيرا دعاني صديقي «سيد دولة القضاء» لتقديم «اعتذار رسمي» للشعب وللقضاة والحال أنني لست جهة رسمية ليصدر عني اعتذار رسميّ... وقال لي بعد أن أغرق في سبّي وفي شتمي «ردّ عليّ إن استطعت»... وهنا فهمت الحكاية كلها وخلصت إلى العبرة إذ يبدو أن صديقي من أرباب البيوت المولعين بمشاهدة الأفلام والمسلسلات المشرقية الفولكلورية ذات الجمال الطفولي والألوان الكثيرة الباهتة، التي ينقسم فيها العالم إلى خير وشر والتي تنحصر فيها مهمّة «الأخيار الأفاضل» في القضاء على الشرّ والتي تختلط فيها البداوة وشهامة الرجال وشجاعتهم مع أنوثة النساء وذلك داخل قصور شاهقة وجنان أو وسط كثبان الرمل الصحراوية...، فتخيّل صديقي نفسه عبد الله غيث، عفوا حمزة ابن عبد المطلب، صائد الأسود ممتطيا صهوة جواده، متقلدا سيفه ودرعه...! وبناء على كل الاعتبارات التي تقدمت وإذا كان الكلام يدل على شخصية صاحبه، فإني أدعو صديقي إلى محاولة إصلاح حاله، وأما الكلام فمآله سلة المهملات وأما معشر القضاة، فإني أدعوكم إلى التبرّئ من هذا الذي يزعم النبوّة إلا إذا تاب وأصلح ويبدو أنه فعلا قد تاب وآمن بكلامي إذ صرح يوم السبت 19 مارس 2011 للقناة التلفزية الوطنية الأولى في برنامج القاموس السياسي بأنه «يكذب عليك من يقول لك إن القضاء مستقل فالسلطة التنفيذية جاثمة على صدورنا» وهو كلام صائب فلماذا الكبر والعجب والعناد...؟!