الدكتور مهدي مبروك من علماء الاجتماع الذين قاموا ببحوث عديدة حول ظاهرة الهجرة السريّة وقد شارك مؤخّرا في ندوة في مدينة برلين الألمانية حول الهجرة السريّة وقد صدر بيان عن هذه الندوة بعنوان «وثيقة برلين» ومهدي مبروك عضو أيضا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي. «الشروق» إلتقته في هذا الحوار حول الهجرة السرية. حوار: نورالدين بالطيب كنت في برلين في ندوة حول الهجرة، ماهي أهم الاستنتاجات التي وقفتم عندها ؟ هذه الندوة انعقدت بمبادرة من منظمة HEINRICH BOLL STIFTUNG غير الحكومية التي يدعمها يسار الخضر بألمانيا وجمعت حوالي خمسين منظمّة تشتغل على قضايا الهجرة واللاجئين أبرز النتائج التي تمّ التوصّل إليها والتي ضمنّت في نداء برلين هي الدعوة الملحّة الى إيقاف اجراءات الترحيل الجماعي للتونسيين وغيرهم من الحدود الاوروبية وأساسا من الحدود الإيطالية هذا أوّلا ثانيا دعوة الجمعيات والحكومات الاوروبية الى مساعدة تونس في استقبال اللاجئين على الحدود التونسية الليبية وقد لوحظ شئ من التقصير والمبدأ الثاني مساندة الثورة التونسية لأن خنقها لن يؤدي إلاّ الى انتكاسها. تنامي الهجرة السريّة بعد 14 جانفي كيف تفهمه ؟ الابحاث التي قمنا بها بدعم من عدّة منظمات وطنية ودولية وأهمّها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والرابطة التونسية لحقوق الانسان والشبكة الاورو متوسطية لحقوق الانسان. أدّت الى استبعاد فرضيتين روّجا لهما الاولى متعلّقة بتواطئ المهاجرين مع دولة من دول الجوار لتشويه الثورة أمّا الفرضية الثانية فهي المتعلّقة بيأس الشباب من الثورة في حين أنّ الامر يتعلّق بتواصل لادفاق الهجرة السّابقة للثورة فملامح المهاجرين ظلّت نسبيا ثابتة، الاعمار، المستوى التعليمي الجنس، المستوى الاجتماعي، غير أنّ الاستثناء هو التراخي الامني وضعف مراقبة الحدود البحرية إبّان الثورة فعلى سبيل المثال من 63 عون أمن كان يفترض أن يكونوا في جرجيس إبّان الموجات الاولى لم يباشر منهم إلا 6 أعوان خصوصا أن عديد المراكز للحرس البحري تمّ حرقها أو تعطيلها. أمّا الجيش فلقد كانت له مهام أخرى متعلّقة بمسألة الامن الوطني هذا الى جانب غياب التجهيزات الملائمة لمثل هذه الحالات يضاف الى الطقس الذي واتى بلغة «البحّارة زويتة»لأن الريح خفيفة ولم تكن الانواء سببا في أي من الوفيات كل هذه العوامل شكّلت فرصة سانحة للإبحار خلسة. لا يمكن للثورة أن تستجيب الان وهنا لإنتظارات الشباب في الشّغل اللائق، ولكن هناك ضرب من الاخفاق متعلّق بغياب رسائل طمئنة وشدّ النّاس عاطفيا الى الثورة وربّما يستفحل هذا الامر حاليا من خلال رسائل سياسية تنفخ في ريح التشّفّي والضغينة. المهاجرون الذين وصلوا الى إيطاليا وعددهم بالالاف أي مصير ينتظرهم ؟ يقارب عدد المهاجرين الذين وصلوا الى الجزر الإيطالية 25 ألف حاولت السّلطات الإيطالية عبر زيارة وزيري الداخلية والخارجية ورئيس الوزراء برلسكوني المتكرّرة أن تفرض على السّلطات التونسية إبرام إتفاقية إعادة القبول وهو شكل من أشكال الترحيل الجماعي أبدت السلطات التونسية قدرة تفاوضية محمودة ولم تخضع الى الابتزاز السياسي أو المالي أو التهديد العسكري خصوصا أن السلطات الإيطالية في ملّفها التفاوضي ورقات مهمّة. أعتقد أن النجاح في إرغام السلطات الإيطالية على قبول 22 ألف مهاجر ولو بصيغة الحماية المؤقتّة مكسب لابد من التنويه به وإن كنّا نتمسّك في المبدإ بحق التونسيين في الجولان الحر فهذا مبدأ من مبادئ حقوق الانسان العادلة والمنصفة لأن سياسة غلق الحدود سياسة ظالمة. كباحث في هذا المجال كيف تتصوّر صيغ الحدّ من تفكير الشبّان في الهجرة السريّة ؟ هذا السؤال مهمّ يتّسم بالكثير من الواقعية لأن إيقاف تيّارات الهجرة السريّة بدعوى أدراك الدرجة الصفر من الهجرة بدأت أوروبا تتخلّى عنه وتستعيض عنه بالهجرة المنتقاة أي تلك التي تكتفي بإنتداب المهارات والكفاءات ولكن مسؤولية الهجرة لا تلقى على دور الاستقبال والمنطق الظالم للحدود إنّها مسؤولية تتحمّلها أيضا الدول. إنّ سياسة تشغيلية تعتمد على تنمية عادلة ومشاريع حياة لهؤلاء الشبّان في أوطانهم من شأنها أن تحدّ وتقلّص من ظاهرة الهجرة السريّة، الجهات الداخلية المحرومة وأزمة الصيد البحري كلّها أسباب تدفع بالاقبال على الظاهرة الى جانب الفشل الدراسي والانقطاع المبكّر وأزمة التشغيل. إعادة النظر في السياسة التنومية والتشغيلية من شأنها أن تكون بداية حل للمسألة أمّا الجانب الاعظم الذي علينا كنخب واعلام كمجتمع مدني أن نشتغل عليه فهو متعلّق بقيم الشباب وصورهم النموذجية وأحيانا الوهمية على أوروبا. أي دور يمكن أن تلعبه المؤسسة الثقافية في خلق عقلية جديدة للشباب فيها شيء من زراعة الامل ؟ هذا السؤال يذكّرني بالمدخل الذي تسللت منه الى ظاهرة الهجرة السريّة وهو مدخل ثقافي بالاساس حين أثرت مخيال المهاجرين في أوّل ما كتبت، الثقافة هي خارطة رمزية تشكّل ذهنيات الناس وهي دليل يوجّه سلوكهم وأفعالهم، الهجرة السريّة ليست استجابة الى حتميات إقتصادية وإجتماعية ضاغطة إنّما هي سلوك أيضا يتحدّد وفق سلّم القيم والرموز، صورة أوروبا قيم المال والإثراء السريع شوّهت سلوكات الشباب ودفعت بهم أحيانا الى الذلّ (زواج غير متكافئ شذوذ جنسي تجارة المخدّرات... ) وهذا ما يقضي تعديلا عميقا لا تقدر عليه إلاّ الثقافة يعيد تنظيم سلّم القيم ويوجّه السلوكات وهذا ما لا تقدر عليه إلاّ الثقافة، القوانين وسلّة المقترحات الاقتصادية ستظلّ عاجزة بمفردها عن حل المشكلة. في العديد من الاحيان ذكرت أن الثورة منقوصة لأنّها لم تقدّم مشاريع ورؤى من شأنها أن تجعل من تونس فضاء للعيش أجمل وأبدع. مظاهر الوحشة والعنف وغياب السلوك المدني والاحتجاجية المدمّرة كلّها تدفع للهروب والرحيل علينا أن ننتبه الى أنّنا قد نؤسس لثورة لا شئ فيها جميل وممتع ومغري من يختزل الإصلاح السياسي في جملة من القوانين واهي لأن ما به يحيا الناس ليست مجرّد مراسيم ونصوص قانونية إنّما هو المشترك بينهم أي روابط الجوار والمواطنية والعيش الجماعي في فضاء جميل. بعد 14 جانفي تغيّر المشهد التونسي تماما، هناك الكثير من الامل وبنفس القدر هناك مخاوف حقيقية بين الخوف والامل أين يقف الباحث الاجتماعي ؟ يدعونا علم الاجتماع الى أن نكون نقديين وأعتقد أن الانخراط في الامل المطلق استسلام لخدر جماعي، نعلم أن للثورة تخميرتها ولكن علينا أن نستفيق عند اللحظة المناسبة وذلك هو عمق الوعي النقدي أحيانا نغترّ الى أن نصغي الى تغريدة الطّائر خارج السّرب في حين أن الخدر والتخميرة تشيطن ذلك. في كل ذلك أنا أميل الى أن نتحلّى بالوعي النقدي وهو ضرب من الحذر تجاه الافراط في الامل والافراط في الخوف معا. أن نحذر من مخاطر الالتفاف على الثورة هذا مهم لكن تأليه الثورة والثوّار ضرب من الالتفاف على الثورة ذاتها. يؤسفني أن يتحوّل المثقف الى ناطق باسم الشّعب أو ناطق باسم الثورة وهو في كل ذلك يسلّم عقله الى مقاولي السياسة وحدهم.