قرأ عدد من أبناء جيلي في الوطن العربي في مرحلة الشباب الأولى بكثير من الشغف والتأثر كتب الشيخ الأزهري خالد محمد خالد لما كان وفيا للتيار المستنير التقدمي، واهتممنا به في تونس، وكانت مقالاتي الأولى في الصحافة التونسية نقدا للكتب الثلاثة: «من هنا نبدأ»، «الديمقراطية أبدا»، «هذا أو الطوفان»، وقد تأثر بها الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 23 جويلية 1952، وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر كما اعترف بذلك للمؤلف لما استقبله غداة الثورة. عاشت مصر قبيل الثورة غليانا سياسيا و اجتماعيا أفضى إلى حريق القاهرة الشهير، وقد مثل الضوء الأخضر للقوة الوحيدة المنظمة: المؤسسة العسكرية لتتحرك إنقاذا للبلاد من نظام سياسي متعفن، وكان العصر يومئذ في العالم العربي عصر الانقلابات العسكرية، ولكن خالد محمد خالد ألف كتبه الثلاثة مبشرا بمرحلة الحرية والديمقراطية التي تأخرت أكثر من نصف قرن لتبدأ في مطلع الألفية الثالثة مرحلة الثورات الشعبية من أجل الحرية والانتقال الديمقراطي، لكن هل نحن متأكدون من أن هذه المرحلة ستمر بسلام، وستصل السفينة المترنحة إلى شاطئ السلامة دون ردة أو انتكاس، وتودع الشعوب العربية النظم الاستبدادية إلى الأبد ؟ إن دراسة النموذج التونسي بكل معطياته، وبعد مرور ثلاثة أشهر تسمح بتحديد معالم الرؤية، وضبط الخطة المستقبلية انطلاقا من هذه المعالم. خشيت على الثورة لما نشرت مقالا أياما قليلة بعد سقوط الصنم بعنوان «حذار أن تسرق الثورة» بينت فيه كيف سرقت كثير من الثورات في التاريخ الحديث، وبالرغم من ذلك فقد كنت يومئذ شديد التفاؤل، ذلك أن القضايا المطروحة كانت قضايا أساسية، وذات طابع سياسي بالدرجة الأولى مثل التنديد بطبخة الحكومة الأولى المؤقتة، وقد طبخت بليل، وحاول الاندساس في صفوفها من خدم النظام الاستبدادي بأظافره طيلة عقدين من الزمن، ومثل رفض بناء جمهورية جديدة بدستور قديم مرقع، وكذلك التأكيد على صيانة حقوق المرأة، واعتبارها خطا أحمر من يحاول القرب منه يتصدى له المجتمع بكل فئاته قبل السلطة والنصوص، وغيرها من الموضوعات الجدية التي تبوأت الصدارة في الإعلام، وفي حلقات النقاش. أعترف أن ظلال التفاؤل بدأت اليوم تتوارى، وتعوضها سحب داكنة تحجب رؤية المستقبل، وهذا ما جعلني أتذكر كتاب خالد محمد خالد «هذا أو الطوفان»، لماذا هذا القلق، وسيطرة الرؤية الضبابية ؟ الأسباب متعددة، و أكتفي هنا بالتركيز على عاملين : ٭ الانشغال بقضايا ثانوية لا علاقة لها بثورة شعبية سقط فيها عشرات من الشهداء على درب وطن أرادوه أن يكون حرّا ليقطع خطوات جديدة على درب الحداثة و التقدم، وأن يكون نموذجا مشعا في الفضاء العربي الإسلامي، فعوض الحديث كيف نصون الثورة ونحميها من محاولات الالتفاف عليها، وهي محاولات جدية، سيطرت مطالب فئوية ضيقة قابلة للتأجيل حتى تمر المرحلة الانتقالية بسلام، كما سيطر موضوع آخر بالغ الخطورة و الخطر، وأعني تلهية الرأي العام بقضايا دينية ما أنزل الله بها من سلطان مثل هل تجوز الصلاة في الشارع والمساجد على قاب قوسين أو أدنى، فإذا كان الهدف من الصلاة في قارعة الطريق التظاهر فتصبح السياسة هي الهدف من الصلاة، إذ أن التظاهر هو بالأساس سياسي، ولو جاء في شكل صلاة جماعية. من أخطر ما يهدد المجتمعات توظيف الدين من أجل أهداف سياسية، وكذلك السياسة من أجل الدين، ومن هنا طالب العارفون بأوضاع المجتمع العربي الإسلامي بفصل الدين عن السياسة. وإذا تم الاتفاق على هذا المبدأ يصبح الشارع للجميع و المسجد للصلاة. ٭ إن الثورات التي تهمل مراعاة العامل الاقتصادي فإنها تفتح ثغرات خطرة يتسلل منها أعداؤها، إنهم يراهنون على جوع الفقراء، وهو يؤدي حتما إلى الانتفاضات الشعبية تعم بعدها الفوضى، و منها يتسلل الآخرون، و قد راهنوا فعلا على الفوضى غداة سقوط النظام، ولكن الجذوة لم يخفت لهيبها يومئذ فأفشلت مخططهم، أما الفوضى التي تعقب الجوع فهي من نوع آخر. شاءت الصدف أن أحضر قبل أيام قليلة ندوة قدم فيها من بيده مقياس حرارة الاقتصاد الوطني السيد محافظ البنك المركزي صورة تبعث على القلق، بل قل الخوف، وكان صريحا فقال إذا لم ينتعش الاقتصاد من هنا إلى آخر السنة فتصبح الصورة ليست قاتمة فحسب، بل سوداء، ويصبح حتى النظام المالي مهددا بالتصدع، ولا بد أن نضع بين أعيننا كيف أن دول اقتصادية كبرى مثل اليونان والبرتغال هزت أركانهما أزمة مالية خانقة أجبرتهما على التسوّل أمام أبواب المنظمات المالية العالمية. إن سياسة الإملاء التي فرضها الكوميسيون المالي على تونس قبل قرن ونصف قد تعود بأسلوب معولم إن لم ننجح في إنقاذ السفينة، ولكن كيف؟ هنالك طريقة وحيدة تكاد تنحصر في تعبئة القوى السياسية، وقوى المجتمع المدني لنشر الوعي في صفوف الشعب بهذه المخاطر ليدركوا أن للثورة أولوياتها، و هنا يبرز بالخصوص دور النقابيين فهم الذين احتضنوا الثورة في القرى والمدن، وقادوا مسيراتها، وهم بحكم وعيهم النقابي، وصلتهم المتينة بعملية الإنتاج من أشد الناس وعيا بخطر الانهيار الاقتصادي. إما أن نكسب الرهان الجديد، رهان صيانة الثورة أو الطوفان.