إنه من الضروري أن يدرك المواطن، وبخاصة الشباب الذي أشعل فتيل الثورة، ودكّ أركان الطاغوت أن كثيرا من الثورات التي عرفها التاريخ الحديث قد التف عليها، وفشلت في نهاية المطاف في تحقيق أهدافها. حدث ذلك لما فشلت قيادتها في تحديد الأولويات، والتمييز بين العاجل والآجل في حلّ المشاكل المتنوعة والمعقدة، وهي قضايا تنفجر بين عشية نجاح الثورة وضحاها، إذ أنها كانت مقموعة مع أصحابها بالحديد والنار. برهنت التجارب التاريخية أنه من الصعب جدا القيام بثورة ثانية إذا فشلت الأولى، ذلك أن أعداء الثورة قد تفطنوا إلى الثغرات، ونقاط الضعف في الأولى، وأدركوا الأخطاء التي ارتكبوها قبل السقوط. قام شعب ألمانياالشرقية بثورة أولى عام 1953، ولم يتمكنوا من إنجاز الثانية إلا بعد ستة وثلاثين عاما (1989)، وكذلك ثورة الشعب المجري (1956 حتى 1989)، والثورة التشيكوسلوفاكية، فقد مرّ على ربيع براغ عقدان من الزمن حتى جاء انهيار المجموعة بكاملها. لا شك أن أسباب الفشل متنوعة تتداخل فيها العوامل الداخلية والخارجية، أما العامل الأساسي فهوعدم تركيز قوى الثورة على الأولويات الأساسية، والانشغال بقضايا ثانوية قابلة للتأجيل حتى تمر مرحلة الانتقال الديمقراطي بسلام. كانت هذه القوى واعية في مرحلة الحكومة المؤقتة الأولى والثانية لما تفطنت إلى محاولات الالتفاف على الثورة، واندساس عناصر غرقت في مستنقع الاستبداد والفساد حتى شوشة الرأس، محاولة للظهور بمظهر الضحية، قائلة : إنها كانت مجرد بيادق يحركها زعيمهم متى شاء، وكيف شاء، ولا يتحملون أي مسؤولية فيما حدث، وكأنهم كانوا مجرد «شواش»!! أصيبت مرحلة اليقظة هذه بالخفوت في الأسابيع الأخيرة لتحل محلها مرحلة مطلبية من جهة، ومرحلة الركض وراء نيل حصة الأسد من الغنيمة السياسية من جهة ثانية، وقد تناسى الراكضون أن الثمرة لم تنضج بعد، ولم يحن قطافها، بل هي اليوم مهددة بالسقوط قبل النضج، ومن أطرف ما سمعت في هذا الصدد قبل أيام قليلة جواب زعيم حركة التضامن (صوليدارنوش) «لاش فاليزا»، وهي التي قادت الثورة البولونية لما قيل له وهويقارن بين الثورتين البولونية والتونسية، نأمل أن تزور تونس قريبا، فأجاب أرجوأن يتم ذلك قبل اندلاع الثورة الثانية، وهويعرف بحكم تجربته الثرية أن الثورات لا تتكرر بسهولة، وإنما الذي يتكرر هوالفوضى. إن الشعب التونسي قد دفع ثمنا باهظا لتنجح ثورته، ولتبدأ في أقرب وقت مرحلة البناء الديمقراطي وتأسيس الجمهورية الثانية. ٭ ٭ ٭ إنني حريص في خاتمة هذا النص على الإشارة إلى النقاط التالية : ٭ إن أنجع الأسلحة التي تحتاجها المرحلة الراهنة الوعي السياسي، ومعالجة جميع القضايا من الزاوية السياسية بالدرجة الأولى، وهنا تبرز ضحالة الفكر السياسي لدى شرائح واسعة من المواطنين، وبخاصة في صفوف الأجيال الناشئة، ولا غرابة في ذلك، إذ أن النظام السياسي السابق لم يمنع العمل السياسي الحر فحسب، بل سعى بكل الوسائل إلى تحريم التفكير السياسي، بل قل تحريم الفكر النقدي الحر بصفة عامة، وصدرت التعليمات للصحف تحت شعار «بلاش فكر»! اندرج نشر الفكر السطحي الرديء والأسطوري الغيبي في مجال الإعلام الديني بصفة خاصة ضمن مخطط التمديد، فالتوريث. وهنا تطفوعلى السطح المسؤولية الخطيرة الملقاة على عاتق قوى المجتمع المدني، والقوى السياسية، وبخاصة القوى النقابية لتعبئة جهودها من أجل نشر الوعي السياسي، والتركيز على الأولويات العاجلة، وفي مقدمتها استقرار الوضع الأمني، واستتباب السلم الاجتماعية، والعناية بالعامل الاقتصادي. إن الجدل الفقهي القانوني المسيطر على الإعلام حاليا مفيد دون ريب، ولكن دوره يأتي بعد التوافق على القضايا السياسية. ٭ ٭ ٭ ألمعت قبل قليل إلى ضعف الوعي السياسي، وحتى ضمن النخبة الإعلامية التي تؤدي اليوم رسالة وطنية بالغة التأثير، وقد برز ضعف الثقافة السياسية في الندوة الصحفية الأخيرة مع السيد الوزير الأول المؤقت، برز الضعف في بعض الأسئلة، وحتى في الأسلوب، فجل السائلين خاطبوه بالسيد الوزير، وتغافلوا عن منصبه الدستوري. قد يبادر البعض قائلا : إنها مسائل ثانوية «بروتوكلية» لا قيمة لها. لوحدث ذلك في جلسة حوار ضيق لقبل الأمر، أما في ندوة تبث كاملة على الشاشة فلا، إذ ذلك يمس بهيبة الدولة، وبمفهومها لدى المواطن العادي، ولا ننسى هنا أن مفهوم الدولة الحديثة ما يزال هشا في المجتمعات النامية بصفة خاصة، فالقضية إذن ليست شكلية، وليست شخصية، وإنما هي مرتبطة بضرورة تضافر كل الجهود من أجل غرس مفهوم الدولة واحترام هياكلها.